لقيطة الرياض

بعد أن ألقى كيس المخلفات البلاستيكي في حاوية القمامة في ركن شارع بمدينة الرياض مرّت 30 دقيقة عندما وجد أبوحمد نفسه وحيداً حائراً يرتعش من الخوف ورهبة المنظر. يا إلهي! أنفاس وحركة وعطسة مخنوقة ببكاء في كرتون مُغطّى برداء، كانت يداه ترتعدان وهو يكشف الرّداء، وانهار باكياً لمَّا رأى مخلوقاً على وشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، حمل الكرتون وسار به مسرعا إلى منزله، وصاح بزوجته أم حمد..

كشفت أم حمد الغطاء، وحضنتها بقبلات الأمومة ودموع الرحمة، وبدأت تسقيها من رضاعة الحليب التي وضعت بجانبها في الكرتون. حكى لزوجته الواقعة، وبعد لحظات صمت مؤلمة أسرعا بها إلى المستشفى، حرارة المولودة مرتفعة، ووضعها تحت المراقبة والعناية الطبية أمر ضروري، كان هذا تقرير الطبيب.

بدأت أسئلة الطبيب، نظر أبوحمد إلى عيني زوجته وفهم الإجابة، كان الموقف يستوجب الحيلة لإنقاذ الطفلة، مرت الأمور بلطف الله وعنايته، وخرجت البريئة من المستشفى بعد يومين لم تذق فيهما أم حمد طعم النوم والراحة.

ضج منزل أبي حمد بصراخ طفلة في أسابيعها الأولى، حيرة التحضير للإجابات على الأسئلة كانت واضحة على مُحيّا أبي حمد، وكان صريحاً مع ابنه حمد وابنته هيفاء بعد حضورهما للسلام على والديهما. اقترح زوج ابنته هيفاء أن يتم تسليم الطفلة إلى مركز رعاية اللقطاء، وفي هذه اللحظة انهمرت دموع أم حمد، وعرف الجميع تعلق المرأة الخمسينية بالطفلة، حسم أبوحمد الأمر وقرر أن يتبنى الطفلة بعد أن يُكمل الإجراءات النظامية.

وهي في سن المراهقة، سألت فاطمة أمها ذات ليلة، هل شعرت بآلام شديدة عند ولادتي؟

ضحكت مريم، ثم بكت، وتبسّمت ثم بكت، وشربت ماء، ثم بكت، وحضنت ابنتها وقالت بصوت يهز أضلع صدرها، كُنتِ يا فاطمة برداً وسلاماً، سبقتِ آلامك، وأنا من فرحتي نسيت آلامي، إذا كُنتِ تذكرين آلامكِ في بطني فأنا أذكر آلامكِ..!!

عاشت فاطمة في كنف حُب وعطف وحنان، ورعاية لم تشعر فيها ولو للحظة واحدة بأنها من نطفة مجهولة هويةً ونسباً، وعلاقة سويّة. حوّلت فاطمة حياة أبي حمد وزوجته مريم من الركود والرتابة والهدوء المُمِل إلى عنفوان شبابي مُتجدد، وأصبحا يستمتعان معها بلذة السفر ومستجدات الحياة والأناقة والثورة المعلوماتية.

نجح أبوحمد وزوجته مريم بتوفير سياج حمائي في أوساط العائلة لتلافي عثرات قد تتعرض لها فاطمة من أسئلة المجتمع السيئة القاتلة بنيران طائشة، ووصلت درجة الحرص إلى تجنب ومقاطعة من لا يثقون بهم.

خرجت فاطمة من حفلة تخرجها من كلية طب الأسنان فخورة بحصولها على مرتبة الشرف الثانية، وكانت لامعة ببياضها وجمالها المُلفت للأنظار، ارتوت فخراً بالتهاني والقبلات من زميلاتها وعميدة الكلية وعضوات هيئة التدريس، وكان صدر أمها قبلة ملاذها الأول والأخير الذي ترتوي منه حُباً وحناناً صباح مساء.

في يوم عرسها، توقّف الجمال يوماً عن المباهاة بأناشيده وغزله ولوحاته وفنونه، واستقر مُغْرماً بفاطمة، في يوم فرحها ارتفعت للسماء كرامات الفضيلة والرحمة والوفاء والحب والإنسانية، في يوم عيون فاطمة مسح الشعراء أبيات غزل الطرف والحَوَر والرموش والألوان العسلية، في يوم فستانها الأبيض، وقلبها الأبيض، ولونها الأبيض، أرخى الظلام سدوله وبانت فاطمة قريبة من أشعة الشمس، في يوم البدر كان للمعازيم مع القمر موعد.

في يوم حريق كرتون الخنا وفجور خيانة الظلام، وليلة خلود الفاتنة لفارس الأحلام، حضر شيخ القبيلة وأغشى قلوب المتسامحين السعداء، برهبة صكوك غفران القبيلة، ممهوراً بسؤال يخدش سماحة الدين وحياء المخلوقين «نطفة الحرمة قبيلية ولّا خضيرية»؟ هرول زمرة من الجهلة يبحثون عن البصمات بين رماد كرتون احترق!

بقلم: عبدالسلام اليمني - الحياة