«فاسد» أوقف الشّعُوب في طوابير!

نواميس الكون تحيط بنا من كل جانب، ربما لا نشعر بها، ولكنها تؤثر في حياتنا بقدرة الخالق جل في علاه.
خميرة اليوم، هي امتداد لخميرة ما قبل الميلاد، الأيام تمضي، ورحابة التاريخ ترحم من يناضل لأجل الإبداع وعمارة الأرض وإسعاد البشرية.

توماس أديسون، مخلوق مثلنا من ماء دافق، بقي في بطن أمه تسعة أشهر، الفرق بينه وبين بعض البشر، الشّغف لأجل النجاح، والمثابرة لتحقيق نصر ظَّل يغلي في عروقه حتى أبصر النور.
الشّغف بالنجاح ألدُّ أعداء الهزيمة، وهزيمة الفشل والإحباط سقوط مُريع لهيكل الروح، وابن أديسون لم يسمح لفايروسات الفشل أن تقترب من حاسة الشم والذوق لديه.
على رغم مرور ٨٣ عاماً على رحيله، لا يزال أديسون مسكوناً بذاكرة الليل، وطواحين الإنتاج في النهار، مُلهم الليل بمصابيح النور، وعدو شرس لكآبة وطلاسم الظلام.
قَدَرُ «توماس» أن الكهرباء وصلت للسجون، ووصمها السواد وهي تقمع أجساد البشر بكراسي وعُصي التعذيب، وهنا يصيح المُعّذبون.. ليتك فشلت يا ابن أديسون!

بائع الصحف في محطة سكك الحديد لم يكن يحمل أسفاراً، الشّغف قاده لاكتشاف أسرار الطباعة، وفي عام 1862 أصدر أول نشرة أسبوعية، وهنا بدأت ملامح العبقرية.
ارتوى من حضن مُدّرسة القراءة والأدب، كيف يكون الأدب؟ وأهمية إثارة الأسئلة، وقال: «ماري والدتي كانت مُعَلّمتي ومُلهمتي، كُنت أُحبها كثيراً وتحُبّني بشراهة»، كان مولعاً بظواهر الأشياء في الكون، وكيفية عملها، وبطلاً في التجارب.

بعد ماري تأثر بحياة المهندس الإنكليزي جيمس واط، الذي قادته ملاحظة إلى اكتشاف قوة البخار حينما كان جالساً مع أمه في المطبخ، ورأى سحابة من البخار تدفع غطاء القدر إلى أعلى، ومن هنا بدأ اكتشاف قوة البخار!
صّدقوني أن القِدْر كان صغيراً، ولو كان جيمس واط في حضرة مطابخ المفاطيح والكاتم، فلن يخرج إلا وهو يحمل محطة تحلية أو مُولّد كهرباء. فرق بين من يأكل لُيغذّي شرايين الفكر والمثابرة ليُحقق انتصاراً، وبين من يأكلون والأسئلة ثائرة حول الصحون!

‏خَلّف توماس أديسون، وراءه إرثاً عالي الجودة والتأثير في حياة البشر، أكثر من ألف اختراع، وكان له مع اختراع المصباح الكهربائي قصة مُؤثرة في حياته؛ مرضت والدته وكان لا بد من إجراء جراحة، اصطدم الطبيب في المساء بعدم وجود الضوء الكافي فقرر تأجيل إجرائها إلى الصباح، هُنَا ومن هذا الموقف انفجر الشّغف عند أديسون. لا بد من إضاءة الليل بضوء مُبْهر، فكان حُسن الكلام وجدارة العمل أبلغ خطاب، فخاض معركة ٩٩ تجربة، وعندما تكرر فشل تجاربه ومحاولاته قال: «حسناً هذا عظيم. أثبتنا أن هذه وسيلة فاشلة في الوصول إلى الاختراع الذي نحلم به». وزاد إصراره وعزيمته وشغفه بالفوز حتى توصّل إلى اختراع المصباح الكهربائي في عام ١٨٧٩، فصنع بشغف النجاح مُعجزة المُستقبل.
انتصرت رسالته التي بعث بها إلى مكتب براءة الاختراع في واشنطن، عندما أخبرهم أنه يعمل على اختراع مصباح كهربائي، نصحه المكتب في رسالة جوابية «إنها فكرة حمقاء، الناس تكتفي بضوء الشمس يا توماس، ما هذا الهراء!

رَدّ عليهم بلغة الواثق، ستقفون يوماً لتسديد فواتير الكهرباء!

نعم يا أديسون، وقف الأجداد والآباء في طوابير طويلة يسددون قيمة فواتير الكهرباء، واليوم انتهت الطوابير، وأصبح الناس يُسددون من الهواتف المحمولة، بل تعالت صيحات البكاء لتوفير الطاقة المُهدرة.
قدَّمت للبشرية أكثر من ألف اختراع على ضوء الشمس والمصابيح، واقتدى بك عُلماء في الطب والهندسة والتكنولوجيا، أخذهم شغف حُب النجاح، وسهروا الليالي على ضوء مصباح، كانت صورتك وسيرتك تحكي لهم معنى المثابرة والإرادة، ونستميحُك عُذراً أن أقواماً من أبناء جلدتنا يُهدرون الطاقة على حكاوي الليل ومُقارعة اللهو، بل أفسدوا قيمتها وارخصوا معناها.

الأم مدرسة إذا أعددتها... أعددت شعباً طيب الأعراق

حفظنا هذا البيت للشاعر الراحل حافظ إبراهيم، نُردده إيماناً منا بقدسية وعظمة دور الأم، ولكننا أضعناه وجفت الدموع من مآقيها، البيت، والشارع، والمناهج، والمدرسة، والمُدرّس، مناطق تُهم لم تنتهي.
«أنت فاسد»، هذا ما قاله الأستاذ في المدرسة للطالب توماس أديسون، عاد إلى المنزل يحمل عار التهمة، تبسّمت أمه وتلقفته بحضن الثقة المطلقة، أعادت إليه توازن هيكل الرُّوح، وتولّدت لديه عزيمة الجدارة بثقتها، ولم يكن مبالغاً عندما قال: «الأم هي أطيب كائن على الإطلاق، ولولا أمي لما أصبحتُ مُخترعاً أبداً».

بقلم: عبدالسلام اليمني - الحياة