التحول الوطني في مهب البيئة الحاضنة!

لست متشائماً لأُكسّر مجاديف من يعملون ليل نهار من أجل التغيير، لنقل إدارة الاقتصاد الوطني من سيطرة فكر إدارات حكومية عتيقة، إلى آفاق تشاركية رحبة وفق رؤية وآليات ومُؤشرات أداء جديدة، ولستُ مُحبطاً لأتمسك باستبداد الكلمات والمعاني لأُروج لحملات التشكيك، لأنني لم أشارك في صياغة البرنامج الجديد للتحوّل الوطني.

الاهتمام بالوطن أمانة، والأمانة أن يكون لدى الإنسان شغف لقول الحقيقة، وهذه قيم أخلاقية لمحاسبة النفس وصدّها من الولوج في مسارات المُحاباة الكسولة، تتمتع بغناها وتُصيب بالآلام والمعاناة أجيال مقبلة، وما يعيشه اقتصادنا الوطني من هشاشة المخرجات يعود في أصله إلى ضعف الرؤية التي اتسعت بالآمال، وضاقت بعجز الإدارة وسوء التنفيذ.

شرف لا أدعيه، اهتمامي ومتابعتي لما يُنشر ويُطرح من آراء وأخبار حول برنامج التحوّل الوطني، وهذا الاهتمام أحاطني بربط ما يدور في حياتنا اليومية من أحداث وأنشطة ومسارات بمستقبل البرنامج الذي تُعقد الآمال على نجاحه، للخروج من مأزق اعتماد الاقتصاد الكُلِّي على النفط، بعد تجربة سبعة عقود من المد والجزر.
حياتُنا وسلوكنا وأنماط معيشتنا بمختلف تفاصيلها، وطرق وأساليب إدارتنا للأعمال اليومية، هي التي تُشكِّل البيئة الحاضنة لبرنامج التحول الوطني، وسأطرح بما تسمح به المساحة المُخصصة للمقالة، ما أراه ربما غائباً عن الطرح والمناقشة في برنامج التحول الوطني المُزمع إعلانه قريباً.

التّداخل في الاختصاصات بين الجهات الحكومية:حتى هذه اللحظة لم أسمع أو أقرأ عن تنفيذ حلول عاجلة لفك الاشتباك والتداخل في المهمات بين العديد من الأجهزة الحكومية، ولا تزال العديد من الأمور المُعلقة في أروقة لجان بيروقراطية لم تُحسم حتى الآن، وحتى يمكن لأجهزة المتابعة، ومجلس الاقتصاد والتنمية، تقويم مؤشرات وكفاءة الأداء لكل وزارة وهيئة ومؤسسة حكومية. من المهم أولاً وضوح الرؤية للمسؤول عن حدود المهمات والمسؤوليات التي سيحاسب عليها، بدلاً من الدخول في متاهات تقاذف كرة نار المسؤولية. عدم وجود خريطة معتمدة لـ50 عاماً مقبلة:

قطاعات البلديات، والنقل، والصحة، والتعليم، والمياه والكهرباء، والبترول، والإسكان، كيف يُمكنها التخطيط على المديْن المتوسط والطويل، من دون وجود خريطة معتمدة، محدد عليها بدقة مسارات ومخططات المدن، والطرق، والوقود المُكافئ، ومسارات خطوط نقل الكهرباء والمياه والصرف الصحي، ومواقع المستشفيات والمدارس؟

ألا يعلم المُخططون في وزارة الاقتصاد والتخطيط عن هدر الكثير من المال والوقت لعقود مضت في المراسلات واللجان والاجتماعات، وقضايا نزع المُلكيات؟ وكيف ستُحاسب الأجهزة والقطاعات الحكومية على مستوى وكفاءة الإنجاز والتزامها بالجداول الزمنية المحددة للتنفيذ، وجل الوقت سيذهب في المخاطبات واجتماعات اللجان لوضع حلول للعوائق التي تواجهها؟

التخصيص ودخول شركات أجنبية للاستثمار: دخول الشركات الأجنبية والمحلية للاستثمار في مشاريع قائمة في قطاعات الطاقة، والصناعة، والخدمات المختلفة، التي تملكها الحكومة أو تمتلك حصص سيطرة فيها، الهدف - منه كما نشر - رفع كفاءة الإنتاج والأداء، وتخفيف الأعباء المالية على الحكومة من خلال التخلّص من الإعانة، وتوفير السيولة المالية للصرف على التعليم والصحة والأمن والدفاع، وهذا هو التوجُّه الأفضل على المدى البعيد، ولكن من المهم جداً مواجهة ما سيفرزه من تبعات أهمها، أن المستثمر المحلي أو الأجنبي حساباته دقيقة ومرتبطة بشكل مباشر بنِسَب العوائد المُربحة على الاستثمار، وعلى سبيل المثال، محطة توليد الكهرباء أو تحلية المياه التي يعمل فيها ٢٥٠ مهندساً وفنياً سعودياً، في حال بيعها لمستثمرين محليين أو أجانب، المؤكد أنه سيتم الاستغناء عن ٥٠ في المئة على أقل تقدير من القوى العاملة، فإلى أين سيذهبون؟ الاستعداد للإجابة جدير بالمناقشة والاهتمام من المُخططين قبل حدوث الأزمة!

المرور والشوارع وملايين الدكاكين: ‏إذا كُنَّا نريد أن نخلق بيئة جاذبة ومُريحة ومُحفّزة على نجاح برنامج التحول الوطني، فلنبدأ أولاً بإراحة أعصاب المواطنين والمقيمين والمستثمرين في الطرقات والشوارع، ليعيش الناس في هذا الوطن في واحة مرورية تحكمها أنظمة وتقنيات وكوادر مرورية عالية الجودة، تُسهم في الانضباط وإذابة حالات القلق. إن مناظر الزحام التي تأكل من ساعات الإنتاج، والتهور والمخالفات المرورية البشعة التي ذاق منها الغالبية الأمرّين ستظل تُطار وصمنا بالتخلّف.

لقد ابتلي مجتمعنا في المدن كافة بهوس الدكاكين، وكم أتمنى على المخططين لبرنامج مبادرات التحول الوطني، أن يخرجوا من غُرف التوقعات والاحتمالات ليروا بأنفسهم كيف تدار موارد الوطن في مئات الآلاف، بل ملايين الدكاكين، وحجم الهدر الهائل جداً في الطاقة والكهرباء والمياه والتلوث والتستر، ولن أُبالغ إذا توقعت أن نسب نمو الدكاكين ستصل قريباً ليصبح لكل فرد يعيش في مدينة الرياض دكان وصيدلية وفوّال!

والسؤال الكبير للمُخططين للمستقبل، هل برنامج مبادرات التحول الوطني أخذ في الاعتبارات كُل التشريعات والمعايير والقيم الانضباطية والتنظيمية، التي تُهيئ للوطن حاضنات أعمال ومراكز تطوير وبيئة خصبة تتفاعل إيجابياً مع المُبادرات، من دون عوائق لوجستية تُعيدنا مرة أخرى لنقطة الصفر؟

وهذا ما لا نتمناه، لأنها ستُصيب التنمية والاقتصاد الوطني في مقتل!

بقلم: عبد السلام اليمني - الحياة