فكوا الاختناق عن الرياض يا وزير الإسكان!

في مناسبة رسمية حضرتُها أواخر عام ١٩٩٨ في مدينة جوهانسبرغ (أكبر مدن جنوب أفريقيا)، سمعت الزعيم التاريخي الراحل نيلسون مانديلا وهو يُخاطب رجال أعمال من السعودية، ويدعوهم للاستثمار في مجال بناء المساكن في بلاده، وتحدث عن الفرص الكبيرة المتاحة لهم، ومما قاله: إنه يرى أن تملّك السكن بالنسبة إلى الإنسان هو أعلى درجات الإحساس بالانتماء إلى الأرض والوطن، وهو أهم من الحصول على الوظيفة، فإذا حصل المواطن على السكن سيسعى إلى تأمين مستلزماته، ومن ثم تكوين أسرة، وهذا لن يتأتى إلا بالجد والعمل والمثابرة، وهذه النتائج ستكون محصلةً لحصول المُجِدِّ على عمل يُدر عليه دخلاً مُنتظماً يؤمّن له ولأسرته حياة كريمة.

كنت أشعر من حديث مانديلا بثقته المطلقة بأهمية وجدارة توافر حصول الشعب الجنوب أفريقي على المساكن، والدور الذي ستلعبه في ترسيخ الاستقرار، وكان يوصي خليفته المرشح آنذاك ثامبو أمبيكي بذلك.

إذاً، لا جديد في تعريف أهمية السكن بالنسبة إلى الإنسان، وأنه العامل التنموي والأمني الأول للشعور بالانتماء والاستقرار، وقد أجمع على ذلك فلاسفة وأبطال التنمية على مستوى العالم، مع اختلاف أنماط وقناعات المعيشة وأساليب إدارتها.

حلول إطفاء الحرائق لم تَعُد مُجدية، وأصابت التنمية في السعودية بتراكم المُشكلات بين مَدّ وجزر، ويأتي التخطيط ذو الأبعاد الاستراتيجية بعيدة المدى، هو فيصل الفكر النَيّر الذي يجعل من القادة أبطالاً في التنمية لا ينساهم تاريخ الوطن. وأقول لوزير الإسكان المهندس ماجد الحقيل، أعرف أنك مهموم من رأسك حتى أخمص قدميك بتحديات مشكلات الإسكان، خصوصاً مع تضاؤل فرص الاعتماد على التمويل الحكومي لمشاريع الإسكان، وليس أمامك إلا الأفكار والحلول الإبداعية، وفي هذه المقالة سأطرح أمامك بعض الرّؤى التي ربما تجد فيها ما يستحق التفكير.

- مشاريع الإسكان، الفقراء أولاً..

المدن الرئيسة في المملكة تراكمت فيها عبر عقود مضت أحياء شعبية بعض مبانيها ربما تكون آيلة للسقوط، كما أنها أصبحت تُشكل عبئاً اجتماعياً وأمنياً على الوطن، فلماذا لا يتم التفكير الجِدّي في إعادة تخطيط هذه الأحياء، وإعمارها وفق منهج اقتصاديات البناء وصداقة البيئة، لترشيد استهلاك المياه والكهرباء، وتوفير الخدمات اليومية للمواطنين في هذه الأحياء بطرق اقتصادية وإيجارات رمزية، ويمكن تمويل بناء المساكن في الأحياء الشعبية عبر طرق مُتعددة، منها: منح من الحكومة، وإسهامات الشركات ورجال الأعمال من منطلق المسؤولية المجتمعية، وقروض مُيسّرة، أو طرحُها لشركات التطوير العقاري بنظام البناء والتأجير المُنتهي بالتمليك، على أن تتولى الصناديق الحكومية تسديد قيمة الإيجارات، ولكن بتمويل طويل الأمد وغير مُرهق لموازنة الحكومة السنوية، لأن الفقراء مهما طُرحت من حلول لن يستطيعوا دفع قيمة الإيجارات أو تملك المنازل.

- اتفاق كوريا، والرياض المخنوقة..

مارغريت تاتشر، بعقلية القرن الـ20 فكت اختناقات مدينة لندن السكانية بحوافز ضواحيها، بقرارات شُجاعة، ورؤية بعيدة المدى، جعلت من ضواحي لندن مراكز جاذبة ومريحة للسكن. وفي مدينة أمستردام طبقوا النظرية نفسها، وتستطيع بضغطة «زرار» أن تعرف ماذا فعلوا وكيف خططوا؟ وأنت يا وزير الإسكان شاب رائع، تُفكّر بعقلية القرن الـ21، وأمامك مدينة تختنق كُل يوم بازدياد عدد السكان والأحياء والمركبات، والضغط الهائل جداً على الخدمات، فلماذا لا تفكر مع زملائك الوزراء المعنيين برسم خريطة تطوير ضواحي مدينة الرياض المُحيطة بها من الشرق والغرب، والشمال والجنوب؟

كُنَّا ننتظر أن تكون مذكرة التفاهم الإطارية مع الشركات الكورية لبناء 100 ألف وحدة سكنية موزعة على ضواحي مدينة الرياض، مع مخطط شامل للطرق والمواصلات وتكامل الخدمات التي تفي بحاجات المواطنين اليومية بأسلوب تخطيطي مماثل لما هو موجود في مدينتي الجبيل وينبع على سبيل المثال، وقد فوجئت ومعي الكثير من المتابعين بأن الخبر ينقل إلينا صدمةً أخرى، وسؤالاً كبيراً عن مُستقبل العاصمة التي تكاد تختنق من عشوائية التخطيط!

ألم تطرحوا مع زملائكم الوزراء في مجلس الاقتصاد والتنمية سؤالاً عن كيف ستكون مدينة الرياض بعد عشر سنوات؟

ألا توجد لديكم خريطة عن تمدد مدينة الرياض الحالي وإلى أين وصل؟ وكيف سيتحرّك ملايين البشر، وإلى كم ستصل نسبة التلوث؟

وهل المطلوب فقط بناء مساكن، وليس مهماً التفكير في عواقب أين تكون وكيف تكون؟ وهل حلول وزارة الإسكان مُستدامة مع رؤية بعيدة المدى لجميع العوائق والتحديات المُستقبلية، أم أنها حلول إطفاء حرائق اعتدنا عليها طوال تجربتنا التنموية ذات الخمسة عقود؟

عاصمتنا الرياض تختنق يا وزراء، البلديات، والنقل، والإسكان، وكلما ظهرت أحياء جديدة، تأكدوا أنها تزداد اختناقاً، أوقفوا عاجلاً غير آجل تمدد مدينة الرياض، وأسسوا في ضواحيها الرائعة أحياء سكنية جاذبة ومريحة، لا تنقلوا إليها ثقافة الدكاكين العشوائية، بل مركز تجاري واحد، بل نُريدها بثقافة «أنسنة» الأحياء، المكتبة والحدائق والمدارس ومركز صحي متقدم، وملاعب الأطفال ومراكز لممارسة الرياضة وتقديم الخدمات التي يحتاجها السكان وتغنيهم عن الذهاب إلى المدينة.
إذا كنا نريد التحول، فأعتقد أن هذا من مرتكزات التحول الحضاري المهم، وأنتم أيها الوزراء أدرى بشؤونكم، وما ذكرته للتذكير ليس إلا.

بقلم: عبد السلام اليمني - الحياة