كُرة النار.. في جيب أبي جلاّد!

ولد أبوجلاّد المتري في بلدة زراعية صغيرة، وأنفق الشطر الأعظم من طفولته مع والده في المزرعة. تزوج وأنجب، وبعد وفاة والده باع المزرعة وأصبح يملك في حسابه مليون ريال.

غادر البلدة - قبل ثلاثة عقود - مُجبراً، إلى العاصمة الرياض بعد حصول ابنه على القبول للدراسة في الجامعة. «الإيجار دم فاسد»، هكذا كان يردد على أسماع عائلته، فاشترى على إثر هذه القناعة منزلاً بمبلغ ٣٠٠ ألف ريال، وكان ينظر إلى المبلغ المُتبقي لديه من ثمن المزرعة على أنه كنز لا ينبغي أن يُنفقه إلا في مساحة شغفه المفتون بحب التملك.

استأجر دكاناً صغيراً وعلَّق على مدخله لوحة تحمل مكتب «أبوجلاّد للعقارات». كان لا يقبل التعامل في مجال الإيجارات، وكافح عاماً كاملاً يُفكّك رموز وأسرار المساهمات ومخططات الأراضي، وعلى رغم بساطة تعليمه، التي لا تتعدى القراءة والكتابة، فإنه كان شغوفاً بجمع المعلومات عن مُلاك الأراضي وهواميرها، ويُقلّب كل صباح صفحات الجريدة ويجمع الأخبار وتصاريح المسؤولين عن مشاريع الرياض وخططها المستقبلية، وبعد أن حصل من البلدية على نسخة من المخطط الحضري للمدينة قرر إغلاق المكتب العقاري!

بعد صلاة عصر اليوم التالي توجّه إلى مكتب أبي تراب المنتفخ الهامور العقاري الأول في المدينة، سلّم عليه وقبّل رأسه وعرض عليه رغبته في العمل بمكتبه العقاري ذائع الصيت. سأله أبوتراب وهل تفهم في العقار «يبو جلاّد»؟

قال: نعم يا شيخنا، أنتم أمام نفط تُرابي، والصراع التجاري مفتوح - من دون حسيب ولا رقيب - على مُخططات المدينة، وأشبعه ببعض المعلومات، وأخفى عنه ما يُريد أن يدّخره للمستقبل.

أُعجب أبوتراب بفطنة هذا القروي المُلتهب على رغم قناعته بالخشية منه، وقرر تعيينه موظفاً في مكتبه بمرتب مواز لمُرتب أبي القاسم السوداني، لم يناقش مرتبه ولا الميزات التي يحصل عليها لغاية في نفس أبي جلاّد.

بعد مرور ثلاثة أشهر على عمله، قرر أبوجلاّد أن يضرب أطناب الثقة المطلقة به لدى أبي تراب، فأشار عليه بفتح مجال المساهمة في أرض يملكها المنتفخ، مساحتها ثلاثة ملايين متر مربع، وقال له: أعلن المساهمة واجمع أموال الناس، ثم تحرّك ببطء في البيع بحجة طول الإجراءات نستثمر هذه الأموال في بناء عمارات تجارية ونبيعها، نُحقق مكاسب الأرباح ونعود برأس المال كما هو لأرض المساهمة المفتوحة!

أطلق «المنتفخ» قهقهة مُدوية لفتت انتباه أبي القاسم المشغول بمفاتيح التأجير، وقال لأبي جلاّد: من أين لك هذه الأفكار أيها القصير الماكر؟ رد عليه بجديته المعهودة، سأتولى إدارة ومسؤولية هذا المشروع بـ٥٠ في المئة من الأرباح، وبعد جدال وأخذ ورد اتفقا على ٢٥ في المئة، وتم توقيع الاتفاق.

نجحت الخطة وكسب منها أبوجلاّد ٣٠ مليون ريال من أموال المساكين المغلوبين على أمرهم الذين طال انتظارهم 10 أعوام لاسترداد أموالهم وأرباحهم الموعودة بعام واحد عند فتح باب المساهمة!
غادر أبو جلاّد مكتب «المنتفخ» مُودعاً بمثل ما استُقبل به من حفاوة وتكريم، وقال قبل مُغادرته: لا يزال في التراب خير كثير يا شيخنا، وستراني عما قريب على خريطة الرياض أُقلّب الأسعار تقليباً!

أنشأ على الفور شركة للاستثمار العقاري، وأوكل لابنه جلاّد - الذي تخرّج من كلية التجارة - مهمة تكوين وحدة لرصد وجمع المعلومات، كان يسأل ابنه عن عدد الطلاب، وعدد المواليد، وأخبار المشاريع، وعدد فسوح البناء، وعندما ألح عليه عن الفائدة من هذه المعلومات؟ أجابه، إنها مصائد مُستقبل الأجيال يا جلاّد!

أصبح أبوجلاّد القروي البسيط واحداً من أهم وأكبر العقاريين ومُلاك الأراضي على مستوى البلاد، شمالها وجنوبها، شرقها وغربها، دخل معمعة المصالح الكبرى عندما أوكلت إليه إدارة أملاك كبار القوم، وهنا فرض لنفسه حق المشورة!

دخل عليه ابنه جلاّد، وقد بلغ الشيخ سن الـ80 وقال له: يا أبت إن قرار فرض الرسوم على الأراضي البيضاء سيصدر قريباً، وما خططنا له للمستقبل سيتعرض للمخاطر، وخصوصاً ونحن نملك ملايين الأمتار والمخططات في عدد من المدن، فما هو الحل برأيك، هل نتخلص ونبيع أم ننتظر؟

تبسّم الشيخ العارف ببواطن الأمور وقال: يا بني لا تخشى شيئاً وهدئ من روعك، رسوم الأراضي ليست حلاً ولن تكون، لا نزال في بداية الطريق الذي اعتبره مُسكناً، المساس بالعقار كرة نار ستظل مُشتعلة، ربما يعرفون كيف يُطفئونها ولكنهم سيصابون بشظاياها.

بقلم: عبدالسلام اليمني - صحيفة "الحياة"