توليد القياديين قبل توليد الوظائف

التفكير الاستراتيجي للدول يعتمد على القدرة على توليد الأفكار التي تحقق الميزة التنافسية للاقتصاد الكُلِّي، ومن ثم تُضيف قيمة مادية ومعنوية إلى الفكَر والمشاريع والمبادرات والأساليب المقترحة في الأعمال والممارسات اليومية، ويمكن للناس في أية دولة اكتشاف إشارات عدم وجود استراتيجية شاملة، إذا كانت غير مقيدة بأنماط الاتساق والانسجام مع مخرجات التخطيط لفعاليات الأنشطة الاقتصادية، وإنما تعتمد على قرارات المسكنات الوقتية وليس المستدامة وطويلة الأمد.

في عالم الاقتصاد والأعمال تتطلب القرارات النظرة الشاملة المرتفعة، والكفاءة الأساسية والقيمة المُضافة، والاستثمار الذكي للموارد المتاحة، واقتناص الفرص الجديدة، وهذه تؤدي إلى التغذية المُستدامة للأنشطة الاقتصادية، ما يؤدي إلى عناصر التفوق المالي والميزة التنافسية والابتكار، وهذا يتطلب وفرة مهارات التفكير الاستراتيجي عند قادة الأعمال في الحكومة والقطاع الخاص، لكي نستطيع الانطلاق إلى نجاح على أسس ومعايير معروفة وواضحة التركيز والأهداف.
هل هيئة توليد الوظائف ستقوم بتوليد الوظائف، أم ستقوم على توليدها؟

سؤال ثار في مُخيلتي وأنا أقرأ حيثيات ومنطوق قرار إنشاء الهيئة. ولأن الجواب المنطقي للجزء الأول من السؤال بـ«لا»، كان السؤال الآخر للجزء الثاني عن الكيفية؟
من وجهة نظري، أن إنتاج أو توليد الوظائف لا يتحقق عبر إنشاء هيئة مُستقلة فقط، وإنما من خلال إطلاق الرؤية الاستراتيجية للسعودية على أسس التحول الاستراتيجي المُتسارع نحو اقتصاد المعرفة، والقيمة المُضافة العالية، وتوفير الحوافز والتشريعات التمكينية للأعمال والأنشطة الاقتصادية المختلفة للمنافسة المُستدامة على المستوى العالمي.

كيف يمكن توفير استدامة توليد الوظائف، واقتصاد السعودية يعتمد اعتماداً شبه كُلي على الإعانة ورعاية ودعم الحكومة التي وصلت إلى حوالى ٣٠٠ بليون سنوياً؟ وماذا لو تأثرت إيرادات الدولة المعتمدة بنسبة ٩٠ في المئة على العائدات النفطية؟ وهل سيتم وضع خطة مُتدرجة لرفع الإعانة واستيعابها ضمن الهوامش الربحية، مع استمرار تقديم الدعم والمساندة للأسر الفقيرة ومتوسطة الدخل من خلال الإسكان، والرعاية الطبية، وبطاقات التموين المُخفضة، ودعم فواتير استهلاك الماء والكهرباء، مع ربطها بحوافز الترشيد؟

التركيز على توفير التشريعات والآليات والحوافز العادلة وسريعة التمكين، التي تسهم في توليد الوظائف بشكل مُستدام يتطلب رؤية واستراتيجية متكاملة للنهوض بالأعمال والأنشطة الاقتصادية، وبما يُخَفِّف من ضغوط الإنفاق الحكومي السنوي، ويُجنب الجهات الحكومية والشركات والهيئات التابعة لها التكدس والترهل الوظيفي، ويمنح سوق العمل السعودية الحيوية والاستدامة، وبما يؤدي إلى خفض معدلات البطالة التي ستتراكم وتزداد عاماً بعد آخر، إذا لم يُصار إلى قرارات وتشريعات قد تكون مؤلمة في بدايتها، ولكنها فرضت واقعاً لا مناص منه.

إن السعودية الآن في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى التعبير عن الأفكار والآراء النزيهة، وتبادل الرؤى والمفاهيم بروح وطنية بعيدة عن المصالح الخاصة، لإنتاج حلول تدفع بالأمور قُدماً نحو التغيير والتطوير، ورسم استراتيجيات قابلة للتنفيذ على أسس موضوعية، مع وضوح التركيز والاتزان في اتخاذ القرارات. كي ننظر إلى المستقبل نظرة تفاؤلية واعدة، نحتاج إلى تأهيل قياديين سعوديين جُدد في مختلف المجالات، لأنه لا يمكن إدارة الاقتصاد والأعمال بنظرة وآليات وممارسات ومؤشرات عالمية، بعقليات وتفكير قيادات لا تستطيع التخطيط أو الابتكار، إلا من خلال ثقافة الإعانة الحكومية، وفاقد الشيء لا يعطيه، كما يقول المثل!
لازلت أرى أن الحاجة ضرورية ومُلحة لإنشاء مراكز على أحدث النظم والمفاهيم والأساليب العالمية، لإعداد وتطوير وتأهيل قياديين سعوديين جُدد، لتكون هذه المراكز مصدر دعم للحكومة وقطاعات الأعمال والأنشطة الاقتصادية لتوليد القياديين المؤهلين بالمهارات والقدرات. لكي يتم تأسيس استراتيجية تتحقق من خلالها الميزة التنافسية المُستدامة في الاقتصاد وتوليد الوظائف، لنقرأ ونراجع بعمق ومسؤولية تجاربنا الماضية الفاشلة منها قبل الناجحة، وكي لا ندور في حلقة ودهاليز القرارات وإلقاء اللوم على هذا الوزير وذاك.

السعودية في حاجة إلى توليد قياديين لديهم شغف المسؤولية والنجاح والقدرة على قيادة الابتكار وإنتاج الأفكار، ومنها سيكون توليد الوظائف نتيجة ومُحصلة طبيعية.


* بقلم: عبدالسلام اليمني - الحياة