صرخة عربية.. في أُذن ياباني!

نوبوأكي نوتوهارا، ولد في اليابان، درس اللغة العربية وعلومها في الجامعات اليابانية والعربية، ترجم عدداً من الروايات والقصص العربية إلى اليابانية، ٤٠ عاماً أمضاها في السفر والتنقل بين العواصم العربية والأرياف والبوادي، شاهد وتأمل وكتب انطباعاته عن العرب للقارئ الياباني، تابع الرواية العربية وتعلم وترجم وتحدث عنها في اليابان، قابل كُتاباً عرباً في البلدان العربية كُلَّهَا، وكوّن صداقات كثيرة في المدن والأرياف ومع البدو في بادية الشام، وهناك تعلّم - كما يقول - دروساً عميقة في الحياة والثقافة وحوار الشعوب.

٤٠ عاماً دفعت نوبوأكي نوتوهارا ليقول بعض الأفكار والانطباعات عن الشخصية العربية المُعاصرة، بدأ رحلته العربية عام ١٩٧٤، وكتب كتابه «العرب - وجهة نظر يابانية» عام ٢٠٠٣، وهذا الكتاب يُمثل - من وجهة نظري - أسلوباً ووصفاً دقيقاً امتاز به اليابانيون عن غيرهم من شعوب العالم. الياباني وصف حال العرب وشخّص مشكلاتهم أفضل منهم، وليس بوسعي في هذه المقالة أن أستعرض الكتاب كاملاً، ويمكن للقارئ الكريم الحصول على نسخة منه من المكتبات أو الإنترنت، لكني سأكتفي بهذه المُقدمة التي تُعبّر عن قيمته العالية، على رغم أن عدد صفحاته لا تتجاوز ١٤٤ صفحة؛ لأن الكاتب استرشد بالقول المأثور، خير الكلام ما قل ودل.

القاهرة تُمثل بصفة عامة حال المدن العربية الأخرى، وإن أثّر النفط في معادلة نفسيات واهتمامات شعوب المدن النفطية.

يقول نوبوأكي نوتوهارا: «ذبلت رغبتي في الخروج إلى شوارع القاهرة، ولم يكن السبب أنني أكره الغبار والضجة وحرارة الشمس القوية، بل كان السبب هو أنني كُنت أرى توتراً شديداً يُغطي المدينة كُلها، ولكني لا أستطيع أن أتجاهل حياة الناس في هذه المدينة.
كانت وجوههم تدخل إلى عيني وهم يمشون وكأن شيئاً ما يطاردهم. وجوه جامدة صامتة، وطوابير طويلة من الواقفين أمام «الجمعية» ومواقف الحافلات وغيرها، لقد رأيت الحافلات المكتظة تجري بينما يتعلق ركاب بالشبابيك والأبواب! يريد الناس أن يركبوا بأي ثمن، وفي هذا الازدحام المحموم ينسى كثير من الرجال والنساء السلوك المُحتشم الذي يوجبه عليهم الإسلام بوصفهم مسلمين، حتى في «التاكسي» يواجه الراكب اضطهاداً، فالسائق يختار الراكب بحسب المكان الذي يريد الذهاب إليه، ويرفض أن يُقِلّ الشخص الذي لا يُعجبه شكله أو المسافة التي سيقطعها، شيء لا يُصدّق عندنا في اليابان!

التوتر يُغطي الشارع ويجعل الناس يتبادلون نظرات عدوانية، ويزيد توتر المدينة نفسها أكثر فأكثر، الناس يقفون في طوابير طويلة، شباب وأرباب أُسر يريدون السفر إلى الخارج طلباً للرزق، الجميع يقفون تحت حرارة الشمس الحارقة بصمت ووجوه جامدة فارغة إلا من التوتر والعجز، والموظفون الحكوميون لا يبالون بالناس، وهناك استثناء لمن يعرف أحد الموظفين، عندئذ يتم إنجاز المعاملة بسرعة كبيرة. كنت أسمع في التلفزيون والراديو وأقرأ في الصحف كلمات مثل: الديموقراطية، حقوق الإنسان، حرية المواطن، سيادة الشعب، وكنت أشعر وأنا أتابع استعمال تلك العبارات أن الحكومة لا تعامل الناس بجدية، بل تسخر منهم وتضحك عليهم، فهل يستطيع المرء أن يتجاهل الصِّلة القائمة بين هذا الأسلوب الذي يستغبي الشعب والتوتر الذي يسيطر على جموع الناس العاديين؟

عندما يُعامل الشعب على نحو سيئ فإن الشعور بالاختناق والتوتر يصبحان سمة عامة للمجتمع بكامله. الناس في شوارع المدن العربية ليسوا سعداء وليسوا مرتاحين».

سمعتُ صرخة في الجو الخانق الصامت ومازالت في أُذني، تلمّس نوتوهارا جذور تلك الصرخة وأسبابها، وقدّم في كتابه بعض النقاط التي تسم الشخصية العربية المعاصرة.
أعطى نوبوأكي نوتوهارا القضية العربية عُمره كُلِّه، ويقول إن من حقه أن يقول شيئاً مباشراً أجمله في عدد من الأفكار، ومنها:
غياب العدالة الاجتماعية، وهذا يعني غياب المبدأ الأساسي الذي يعتمد عليه الناس، ما يؤدي إلى الفوضى، ففي غياب العدالة الاجتماعية وسيادة القوانين على الجميع بالتساوي يستطيع الناس أن يفعلوا كُل شيء، ولذلك يُكرر المواطنون دائماً كُل شيء ممكن هنا؛ لأن القانون لا يحمي الناس من الظلم.
تحت ظروف غياب العدالة الاجتماعية تتعرض حقوق الإنسان للخطر، ولذلك يُصبح الإنسان هشاً وموقتاً وساكناً بلا فعالية، لأنه يعامل دائماً بلا تقدير لقيمته بصفته إنساناً. ويستغرب نوتوهارا من استعمال كلمة الديموقراطية كثيراً في المجتمع العربي، مع أن ظروف الواقع العربي لا تسمح باستعمالها؛ لأن ما يجري فعلاً هو عكسها تماماً. في آخر صفحات كتابه كان لثورة السؤال مواجهة مع نوتوهارا؛ ماذا يفكر العرب أن يفعلوا للمستقبل؟ لكي يفكر العرب بالمستقبل، يرى نوتوهارا أن هناك مشكلة لا بد أن تُحل لكي يتمكنوا من العمل على حل مشكلات المستقبل، لأن مشكلات العرب الكثيرة تخرج من «القمع». القمع مرض عضال ومشكلة أساسية في المجتمع العربي، وعندما يتعرض شخص «ما» من خارج الوطن العربي لهذه المشكلة فإنه يعالجها بصورة خفيفة تشبه كلام المازح، ولا يرى أي وجود لخطوة عادلة أولى تتجنب موضوع القمع والحريّة!

قدّم نبوأكي نوتوهارا في كتابه الوصفة والعلاج، وختمه بالاعتذار إلى المواطن العربي، مُستشهِدا بقول الشاعر العربي حافظ إبراهيم:
صحّ مني العزم والدّهر أبى...
وأقول للأستاذ الكبير وصديق العرب المخلص: «بعد مُضي ١٢ عاماً على صدور كتابك، خلطة عجيبة أفرزها «القمع»، السماء العربية مُلبّدة - يانوتوهارا - بخلطة؛ داعشية، طائفية، فارسية، روسية، صهيونية، أميركية، فماذا عساك أن تقول إذا كُنت لا تزال على قيد الحياة؟!

بقلم: عبدالسلام اليمني - صحيفة "الحياة"