كيف يمكن إعادة بناء شرق أوسط جديد؟

على عُجالة، نستذكر بالمعلومات والأرقام المُوثقة النزاع الدولي المُدمر في الحرب العالمية الثانية، الذي بدأ بأوروبا في أيلول (سبتمبر) ١٩٣٩، وانتهى في سبتمبر ١٩٤٥، وشاركت فيه معظم دول العالم.

سخّرت الدول الكبرى آنذاك القدرات العسكرية والاقتصادية والصناعية والعلمية كافة؛ لخدمة المجهود الحربي، وكانت الحرب العالمية الثانية أكثر الحروب شمولية وكُلفة في التاريخ، إذ شارك فيها أكثر من ١٠٠ مليون جندي وتسببت في مقتل أكثر من ٥٠ مليون شخص، مابين مدني وعسكري، أي ما يعادل 2.5 في المئة من سكان العالم في ذلك الوقت.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كانت الأوضاع في أوروبا -على وجه الخصوص- مأسوية اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وفكرياً، ولم يكن أمام القادة -آنذاك- إلا خياران لا ثالث لهما؛ إما الاستمرار في العداء والتدمير أو التواضع أمام خيارات العقل والمنطق والتفكير في المستقبل، وكان لهم ما أرادوا عندما جلسوا للإجابة على السؤال الآتي: كيف يمكن إعادة بناء أوروبا الجديدة، واقتحام المستقبل بفكر وتصورات مختلفة؟ حطَّموا بإجابات التصورات الجديدة آيديولوجيات ونزاعات وأطماع الماضي، وأعادوا بناء أوروبا الجديدة كما نراها في الوقت الحاضر.

العالم العربي يعيش في الوقت الحاضر المرحلة نفسها التي عاشتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وساحة العالم العربي مُدمرة ومفتوحة أمام الإرهاب والحروب والنزاعات الآيديولوجية والتفكك والبطالة، وضعف البُنى الاقتصادية والصناعية والثقافية، وغياب العدالة الاجتماعية، وانتشار الفساد وحالات البؤس والإحباط، وأصبح العالم العربي أمام واقع مُعقّد جداً، ولم يَعُد قادراً على مواجهة التحديات؛ بسبب إهمال القضايا الإستراتيجية عقود طويلة، وبروز قوتين أصبحتا اللاعب الرئيس والمؤثر في محيط الأحداث على الخريطة العربية، هما إيران وإسرائيل.

على الخريطة العربية، موازين قوى جديدة تتحرك على الأرض وتؤثر في مسار الأحداث والمستقبل، ونتائج ثورات «الربيع العربي» أحبطت الحاضر ورمت سيوفها المسمومة على المستقبل، أفنركن إلى التجمد حول مواقف معينة رسمها الماضي، والتي ستتوقف لا محالة أمام طريق مسدود-، أم نتواضع للإلمام بحقائق الواقع وتوصيفه بدقة وعمق، ونُفكّر بحسن إدارة الأحداث ولو بفن الممكن؟

وكيف يمكن أن نبدأ بحلول الخطوة الأولى أمام التحديات الخطيرة، ولاسيما أن الحلول العسكرية لم ولن تُفلح في إصلاح ما أفسده الدّهر العربي، ولنا في نتائج الحرب العالمية الثانية عظة وعبرة؟!
التقدم العلمي وإنتاج الأفكار -وليس إنتاج المليشيات- يقودان العالم المُتحضر في مواجهة الخلفيات الآيديولوجية، والعالم العربي يحتاج إلى إدارات وعقليات جديدة؛ لنسف خيبات الأمل والإحباط الذي أصاب الشعوب العربية، وتحجيم مقاييس الماضي وأنماطه التي أوصلتنا إلى نزاعات طائفية، وتهيئة الفرص التمكينية؛ لاقتحام المستقبل بتصورات ثقافية واقتصادية وفكرية واجتماعية جديدة.

لسنا وحدنا، ولن نستطيع محو إيران وإسرائيل من الوجود، إذنْ لنُفكّر في السؤال الذي طرحه الزعماء الأوروبيون على أنفسهم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية المأسوية، وليطرح الزعماء العرب السؤال نفسه على أنفسهم: كيف يمكن إعادة بناء الشرق الأوسط الجديد؟
الإجابة تتطلب شجاعة وإقداماً وعملاً جاداً، وفكراً يحمل تصورات جديدة لمنطقة تهتز من التدمير وتُنبئ بما هو أسوأ في القادم من الأيام، والخطر مُحدق بجميع دول الشرق الأوسط بما فيهم إيران وإسرائيل، وكمواطن عربي أفتح نافذة السؤال الصعب أو شبه المحظور: لماذا لا يُفكر زعماء دول الشرق الأوسط (الدول العربية وإيران وإسرائيل) بطريقة الزعماء الأوروبيين بعد الحرب العالمية الثانية، ويجلسون على طاولة اقتحام المستقبل؛ لبناء الشرق الأوسط الجديد، وحتى لا يتهمني البعض بالتفريط في القضية الفلسطينية والمناطق العربية الأخرى المُحتلة من إيران، أؤكد أن هذه الحقوق هي على رأس أولويات بناء الشرق الأوسط الجديد.

حسن النوايا، والإيمان بالمصير المشترك، والفوائد العظيمة التي ستجنيها دول وشعوب الشرق الأوسط الجديد من التكامل الاقتصادي والتجاري، والثورة العلمية والتكنولوجية المُتوقعة، والأمن والاستقرار لشعوب المنطقة؛ ستُشجع الجميع على التخلي عن أنماط ومقاييس التفكير والخلفية الآيديولوجية الأحادية؛ ليسود التدافع بين شعوب المنطقة من أجل العمل والإنتاج والإبداع، وسيبقى الدين الإسلامي الحنيف دين محبة وخير وسلام في الدنيا والآخرة، كما سيستمر الشيعة عرباً وفرساً على مُعتقداتهم وشعائرهم يؤدونها كما يشاؤون، ولكن من دون افتراء واستفزاز لإخوانهم السنة، والمسيحيون واليهود لهم دينهم ولنا ديننا، ولكن المهم والمطلوب من مختلف الأطياف أن يستظلوا بشجرة التسامح والمحبة؛ لينعموا بالخير والأمان.

أعرف صعوبة وتعقيدات المرحلة والأوضاع التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط، وأنه ليس من السهولة بمكان تفكيك مشكلات وقضايا المنطقة بمُجرد عقد اجتماع وطرح حلول سحريّة، لكنها الإرادة الحديدية التي لا مناص للقادة من تجرّعِها، حتى يُمكن تجنب مصير أسود مجهول يلوح في الأفق.

* نقلاً عن صحيفة "الحياة"