كفاءة الرجال.. وطاقة الأجيال

«عام ٢٠٣٠ ما ننتجه من الوقود الأحفوري المكافئ سنستهلكه»، هذه العبارة المُوثّقة بالأرقام ونسب نمو الاستهلاك للقطاعات كافة؛ كافية وفاصلة؛ كي تنهض أمة -تعتمد في مواردها المالية والاقتصادية على النفط- إلى حركة نشطة من التخطيط والعمل الدؤوب، واستصدار القرارات والحوافز، وإعادة ترتيب بُنية الإعانة التي تعتمد عليها المنظومة الاقتصادية والاجتماعية في السعودية، والتغيير الجذري في طريقة التفكير الخامل، المعتمد على حلول موارد النفط، الذي قبل أن يكون ناضباً لا محالة، ولو بعد عقود من الزمن، هو في طريقة إلى استهلاك ترف محلّي، مع ندرة في القيمة المُضافة في ظل غياب صناعة قائمة على نقل وتوطين المعرفة، تستطيع منافسة صناعات عالمية تتطور يوماً بعد يوم.

الاستثمار في الطاقة النووية؛ من أجل إنتاج الكهرباء والمياه المُحلاَّة مُتوقف على قرار سياسي، والاستثمار في الطاقة المُتجددة تائه بين ملفات التردد والبيروقراطية.
مدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة تمتلك المعرفة بعد بحث ودراسات معمَّقة، وتعرف جيداً خريطة الطريق الموصلة إلى الحفاظ على الوقود الأحفوري المُكافئ؛ لاستدامته لاقتصاد الأجيال المقبلة، ولكن هناك من لا يستطيع رؤية اقتصاد المملكة إلا بعين نفطية واحدة،

بعد أن فرضت الأرقام المخيفة لنمو الاستهلاك المحلّي للوقود المكافئ وتزايده بسرعة هائلة، وخطره على الإيرادات المالية للدولة، ظهر من رحم القلق، المركز السعودي لكفاءة الطاقة، ولمزيد من التركيز تم تشكيل اللجنة التنفيذية لكفاءة الطاقة التي يترأسها نائب وزير البترول والثروة المعدنية الأمير عبدالعزيز بن سلمان بن عبدالعزيز، وتشكّل أعضاء اللجنة من منظومة الوزارات والهيئات الحكومية، والشركات الفاعلة في مجال الطاقة، وكان من حسن حظ هذه اللجنة والمركز، والوطن برمّته أن يكون الأمير عبدالعزيز بن سلمان رئيساً لها؛ وسأذكر لكم الأسباب التي أعرفها.

بعد أن حضرت عرضاً قدمه نائب وزير البترول والثروة المعدنية، رئيس اللجنة التنفيذية لكفاءة الطاقة الأمير عبدالعزيز بن سلمان، في مناسبة سابقة، اكتشفت، من دون أن يقول لي أحد- حجم إشفاق رئيس اللجنة والأعضاء على أنفسهم في بداية عملهم، بعد أن وضع أمامهم حجم التداخلات والازدواجية في المهام بين القطاعات الحكومية، وتعقيدات التباعد والاستحواذ وعدم وجود انسجام في الرؤية والتوجهات، وكان العزم يدفع الحسم، وأخذ رئيس اللجنة على عاتقه حلحلة جميع التحديات التي تواجه عمل اللجنة مهما بلغ حجمها وتعقيداتها، وكان النجاح حليف العمل الجاد المخلص.

وكانت المرحلة الثانية، فيما أعتقد، أمام اللجنة التنفيذية لكفاءة الطاقة، تلك الأرقام والمعلومات الهائلة عن حجم استهلاك الطاقة، الوقود المكافئ، والطاقة الكهربائية، الوقود المكافئ يُحرق محلياً بأسعار مدعومة تتحملها الخزانة العامة للدولة، إذاً الطريق صعبة وشاقة، ولن تنفع معها الدعوات والتمنيات والحملات التوعوية. ١٢ مليون مركبة في السعودية تحرق وقوداً هو الأرخص على مستوى العالم، وكل عام يضاف إلى هذا الرقم نحو ٨٠٠ ألف مركبة جديدة، والطاقة الكهربائية تشهد هي الأخرى نمواً في الطلب على الكهرباء (ثمانية في المئة سنوياً)، ويعتبر عالياً جداً بالمقاييس العالمية، ومن ثم فإن استهلاك محطات إنتاج الكهرباء للوقود المكافئ في تصاعد مستمر، على رغم الجهود التي تبذلها الشركة السعودية للكهرباء بتحويل الدورة البسيطة إلى دورة مركبة في عملية الإنتاج.

ويا ليت هذا النمو في استهلاك الطاقة الكهربائية يعود على الناتج المحلي الإجمالي بقيمة مضافة على الاقتصاد الوطني؛ لأن استهلاك الكهرباء يذهب ٧٥ في المئة منه إلى الاستهلاك السكني والحكومي والتجاري، بعكس دول صناعية في الغرب والشرق، استهلاك الكهرباء ٧٥ في المئة من مدخلاته تستخدم للإنتاج في المصانع والمعامل، ومن ثم فإن العائد على الاستثمار في الطاقة الكهربائية يعود بقيمة مضافة عالية على الاقتصاد والناتج القومي لتلك الدول.

في اعتقادي، كان واضحاً أمام اللجنة التنفيذية لكفاءة الطاقة، على رغم هذا الهدر الكبير في الطاقة بأنواعها المختلفة، إلا أن هناك عجزاً واضحاً في إنتاج فرص العمل الجديدة؛ لاستيعاب الخريجين الجدد الذين يتزايدون عاماً بعد آخر، كما أن الصناعة لا تزال إسهاماتها في الناتج الإجمالي المحلي ضعيفة جداً، مقارنة بما يقدم لها من دعم ضمن إطار الإعانة في مدخلاتها، وكان لابد للجنة من أن تبدأ بالتركيز أولاً على إعادة تشكيل بنية المواصفات القياسية للأجهزة والمعدات والمركبات الأكثر استهلاكاً للوقود، وتحقق لها نجاحاً يزخر بأمل كبير في المستقبل، ولا يزال أمام رئيس وأعضاء اللجنة الكثير من العمل والجهد والصبر والمثابرة.

لقد فرض التوجه لإنشاء وزارة للطاقة نفسه على متخذ القرار، وأصبح مطلباً وطنياً مهماً لتوحيد الجهود تحت مظلة واحدة؛ للتخطيط لمستقبل الطاقة برؤية ثاقبة، وبصيرة تحافظ على الوقود الأحفوري من الإهدار، وتشجع على الاستثمار في الطاقة المتجددة، وإعطائها الصلاحيات التمكينية؛ لوضع وتنفيذ الخطط والبرامج القصيرة والمتوسطة وبعيدة المدى.
لا نريد لاقتصادنا أن يدار بعيون وعقليات نفطية، بل بكفاءة الرجال، لتبقى الطاقة مستدامة للوطن والأجيال.
 
* نقلاً عن صحيفة " الحياة"