إنتاج الأفكار.. بين التحفيز والاحتقار

على رغم التأملات القاسية والحياة البائسة، وقوى الهدم الفائقة القوة، إلا أن الناس منذ بدء الخليقة تتكيف مع معطيات الحياة ومكوناتها، يعتصر الألم أجسادهم وهم ينحتون من الصخور بيوتاً؛ لأن الصخر بعزيمة الرجال، الأقدام رحلات أرضية، والسواعد سيوف ملتهبة تبني وتزرع، بقدرة الخالق -جل في علاه- وهاب الأفكار، حوّل الإنسان عبر زمن مديد البحرَ من صانع للأرامل إلى منجم للغذاء والاقتصاد، كانت أنفاس عزائم الرجال أنقى من أنابيب الأوكسجين، والصدور أصلب من ألواح المراكب، والإرادة دفنت منابع الكسل والتردد.

تفرض القسوة إنتاج الأفكار، كما فرض الرخاء في الغرب والشرق - بوقتنا الحاضر- تمدد الاستثمار والاهتمام بالأفكار إلى إحكام السيطرة الاقتصادية والعسكرية على العالم، الفيتناميون بأفكار مقاومة الغزاة على الأميركان انتصروا، واليابانيون بعد القنبلة الذرية، بنواتج الأفكار وطلاقتها أبدعوا وتفوّقوا، والماليزيون تَرَكُوا التمايز وصراع الأعراق، واستجابوا لأفكار المُلهم فأبهروا العالم وتميّزوا، والسنغافوريون هبّوا من مراكب الصيد إلى مراكز إنتاج الأفكار، فتمكنوا من ترويض صناعة المعرفة، وفرضوا لبلدهم محدود المساحة والإمكانات مكانة الاحترام الرفيع.. واستحقوا.

ماذا فعل عرب الظاهرة الصوتية؟

عرَّف أحد الباحثين العرب مفهوم الإبداع على أنه «قدرة الفرد على الإنتاج، إنتاجاً يتميز بأكبر قدر من الطلاقة الفكرية والمرونة التلقائية والأصالة».

وعرّف عرب آخرون التفكير الإبداعي بأنه «نشاط عقلي مُركَّب وهادف، توجهه رغبة قوية في البحث عن حلول أو التوصل إلى نواتج أصيلة لم تكن معروفة سابقاً».

وقالوا أيضاً: إن أساليب التفكير الإبداعي واستخدام العصف الذهني يقويان الدماغ وينميان التفكير وتوليد الأفكار.

وأضيف إلى جهابذة النظريات العرب، بأن ترويض الأفكار وإنتاجها الإبداعية يحتاجان إلى صفاء العقل؛ لأنه فطنة إنتاج الأفكار المُلهمة، ولن يكون ذلك إلا إذا ابتعد هو عن السفاسف والتفاهات، وتجنبت الروح عن الصراعات والترسبات، والإبداع يحتاج إلى بيئة حاضنة جاذبة ومحفزة، يسودها ألق حسن قيادة المنشآت، والراحة النفسية والجسدية المتمددة على صفاء العدل والمساواة.

جامعاتنا منغمسة في مشكلات القبول والتسجيل والمحاضرات، والأبحاث مناسبات احتفالية لتوقيع اتفاقات مع شركات ومؤسسات، ولم نلحظ أي تأثير إيجابي لنتائج تلك الأبحاث يلامس حلولاً لقضايانا المجتمعية، وأتساءل عن مبادرات إنشاء مراكز إنتاج الأفكار في الجامعات ومراكز البحث والتطوير، لفتح المجال لتفجير طاقات الطلاب وأفكارهم الإبداعية، ولتهيئتهم لمراحل حياتهم العملية؟

وليست الجهات الحكومية والشركات والمؤسسات بأحسن حال من الجامعات، فالإجراءات المُملة والبيروقراطية، وضعف الحوافز والاهتمام، تُخيّم على أساليب العمل، وبحسب علمي لا يوجد مراكز تمكينية في السعودية، مخصصة لإنتاج الأفكار بمساحة وإمكانات تحقق للطلاب والموظفين التفكير الإبداعي، والعصف الذهني الذي ينمي التفكير وتوليد الأفكار، وليس هناك جهد مؤسسي معمق لإعداد وتدريب المُلهمين على أسس علمية متبعة عالمياً.

ضجت البلاد طولاً وعرضاً بمُنتج سيارة «غزال»، ثم نُحر أو انتحر الحلم، وانظروا وتبصروا أين آلت الأمور في جامعة الملك سعود العريقة -أم الجامعات في السعودية -؟ الإجابة العقلانية المتزنة ستسمعونها أو سمعتموها من أساتذة وطلاب الجامعة.
الطلاب والطالبات، الموظفون والموظفات، في غدوة وروحة يومية، ومكاننا من الإعراب الإبداعي وإنتاج الأفكار ومخرجات التعليم والتدريب، متجمد تجمد أعالي الهضاب والمحيطات، إلا بمحاولات فردية خجولة نتناقلها، وكأنها نتائج فوز في لعبة كرة القدم، تصفيق حار لمبادرة يتيمة، ثم نستكين إلى واقعٍ العالم يتسابق فيه بالدقائق على علوم واقتصاد المعرفة والتطور التكنولوجي.

يا وزير التعليم، «تعلومهم» بالاهتمام بتهيئة بيئة حاضنة لإنتاج الأفكار في المدارس والمعاهد والجامعات، ويا قادة العمل الإداري في الجهات الحكومية والشركات، أطلقوا العنان لمراكز إنتاج الأفكار بقدر من الطلاقة الفكرية والمرونة التلقائية، فككوا حصار الموظفين والموظفات من معتقلات تقويم الممتاز والجيد جداً والجيد، واربطوا الحوافز والمكافآت بمراكز الإبداع وإنتاج الأفكار، ألا يكفينا تجربة مئوية تكاد تكون عقيمة؟

نقلاً عن صحيفة "الحياة"