حزم القوة.. قبل القمة

دهاة السياسة هم من يتعظون من الأحداث ودروس التاريخ؛ وعندما تكون مدركاً تماماً لما يحاك ويدور حولك، والخطوط الحمراء مُسَّت بنيران الأخطار، لا ينفع بعدها خُطَب ولا مفاوضات وحسابات ومساومات؛ رائحة الخيانات والمؤامرات الآيديولوجية الرخيصة مزَّقت العراق وسورية فأصبحت حدود الجزيرة العربية الشمالية تعتمر بالعمائم الفارسية؛ والمفاوضات الأميركية الإيرانية ظاهرها أسلحة نووية، وباطنها شر مستطير؛ لأن ما يتم على أرض الواقع من أحداث تُفسّر ما يُحاك في دهاليز المفاوضات التي أُريد لها أن تطول ويطول أمدها لتكون الغطاء السّحري لتدمير الأمة العربية؛ وهذا الرأي لا أقوله ضمن سياق «نظرية المؤامرة»، بقدر ما يُترجم أحداث وتطورات نشهدها يومياً على خريطة الدول العربية.

عاد العالم العربي -بعد ثورات الربيع- مُمَزَّق الحدود والمعنويات والولاءات، ومنظمة الجامعة العربية تعيش حالة عجز وسبات عميق بعد نسف ميثاقها رأساً على عقب؛ استغلت إيران أوضاع الأنظمة الحاكمة الفاشلة في العراق وسورية واليمن، بعد فشلها في اختراق دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي عن طريق زعزعة الاستقرار في البحرين بعد وقفة حزم قوية من السعودية.

من المؤكد أنه كان حاضراً أمام الملك سلمان بن عبدالعزيز -قبل أن يتخذ قرار انطلاق عاصفة الحزم- ملفات ووقائع تاريخية لا تُنسى، أول هذه الملفات أن حسن نصر الله جديد (عبدالملك الحوثي) ظهر على أرض اليمن، وأن إيران تعمل على مدار الساعة؛ لفرض واقع جديد في صنعاء مشابه لما هو قائم في لبنان والعراق وسورية، وهذا -بحد ذاته- خطر جداً على أمن دول شبه الجزيرة العربية واستقرارها ومستقبلها، والتردد لا مكان له بين أوراق إدارة الأزمة.

والملف الثاني: مؤتمر القمة العربية في شرم الشيخ، وأكاد أجزم أن الملك سلمان بن عبدالعزيز استحضر مشهد القمة العربية الذي انعقد بالقاهرة في آب (أغسطس) ١٩٩٠، بعد غزو العراق لدولة الكويت بأيام، وكيف سادت فوضى ديبلوماسية الصحون الطائرة، والمساومات والتهديد والوعيد لدول مجلس التعاون؛ ولذلك كان الملك سلمان ذكياً بالاستفادة من دروس الماضي، فذهب إلى القمة العربية في شرم الشيخ مُتّكئاً على إرادة قوية صلبة، وقد سبقته رسالة «عاصفة الحزم» بـ٧٢ ساعة، ووضع الدول العربية أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن تكون مع الحق ومستقبل الأمن القومي العربي، أو تكشف عن النوايا المُبطّنة وتُعلن التأييد لطموحات الثورة الإيرانية. ونجح الملك سلمان نجاحاً باهراً في إخماد نزوات سياسية عربية مُعتادة في مثل هذه المواقف.

والملف الثالث اللافت لأنظار العالم: البراعة في التكتيكات السرّيّة الديبلوماسية والعسكرية والتنظيمية والاجتماعية، فأصابت إيران بالنكوص التام، ولم يكن أمامها أو يترك لها فرصة التحرّك لتعزيز مُحيطها السياسي والنفوذي في اليمن؛ بل أصيبت الديبلوماسية الإيرانية بالذهول لسرعة قرار عاصفة الحزم وديناميكيته وسريته وجدّيته.

منظومة التهيؤ لحرب إغاثة ونُصرة الشرعية في اليمن كانت مثالية في كُل شيء؛ فتقاطرت الدول العربية والإسلامية، ومن دول الشرق والغرب لتأييدها، فكان العقاب عادلاً وقاسياً لانتشال الأشقاء في اليمن وإنقاذهم من براثن السيطرة الإيرانية عبر الحوثيين وأتباع الرئيس المخلوع «الشاويش» -على حد تعبير الرئيس الراحل أنور السادات - علي عبدالله صالح.

بعد سيطرة الأخبار المُنغصة والمُحبطة للشعوب العربية أمام مَد وقوات إيرانية أصبحوا حرس قلاع في لبنان والعراق وسورية، وحَرّكوا ألسنةً وكُتباً مسمومة لإثارة الفتن والقلاقل في دول أخرى؛ حَلّ ظلام ورؤية بائسة لمستقبل البلاد العربية، حتى انبلج فجر جديد في صباح الـ26 من آذار (مارس) ٢٠١٥، وظهر عرب الجزيرة العربية الأشاوس للمبارزة من جديد، وقالوا بغلظة الحكيم العربي الصابر: هنا يجب أن يتوقف المندوب الحوثي الإيراني، وهنا يجب يُقطع دابر «الشاويش» المُرتزق وأتباعه الغوغاء، وأن يبقى الشعب اليمني في يمن سعيد، والشقاء والفناء لمن خان أمانته ووطنه.

المجد كُل المجد لك يا وطني، ونحن نعيش على أعتاب مرحلة جديدة يقودها الملك سلمان بن عبدالعزيز، نقتبس ضياءها من «عاصفة الحزم» للردع والحسم، وعلى جانب آخر انفتاح سياسي على جميع التيارات والأطياف؛ لتبقى السعودية كما هي قبلة المسلمين في أرجاء المعمورة، واحة يتفق الجميع على محبتها واحترامها وتقدير مواقفها؛ ويتنفس الخصوم الصلح والاتفاق على أرضها. هذا قدرك يا وطني، ولنا دروس وعبر من قراءات خاطئة لنتائج ثورات «الربيع العربي» أفرزت مواقف أثّرت في الصورة الذهنية للمملكة؛ ولكن الملك سلمان بن عبدالعزيز أعاد الأمور بسرعة مُذهلة لجادة الصواب. اللهم وفقه وامنحه القوة والتمكين والسداد؛ ليواصل مسيرة التجديد والتحديث.

نقلاً عن صحيفة " الحياة"