مسممو الأبدان

 الأخيار من البشر ينثرون لحظات السعادة والأمل في بواكير الصباح، يخنقون العُبوس بابتسامة التفاؤل، يمسحون عرق الجبين تحت وطأة الإنهاك، يُضيئون بعيون الرِّضا الوجدان والفكر للانطلاق في آفاق الإبداع. طمسوا ثورة الشك في أنابيب صرف الألوان الرمادية، يتحرّكون وحولهم نسيج ثريّ من تناغم المصالحة مع النفس ومع الآخرين، عباراتهم ألحان تتراكم كروائح الزهور تُعطّر المسامع وتحشد حالة السكون لتستقر عملية الشهيق والزفير بين الضلوع بإحساس التوازن المُعتاد. هؤلاء البشر موطن الخلود لإنكار زمجرة التهديد والوعيد المصلوبة على أعناق العشوائية.

اللسان عضو يُنير الله به دروب الخير والمحبة، وعند بعض البشر أُلعوبة دموية حوّلوه من ثمرة حلوة المذاق إلى عسلوج منحدر في وحْل عفن- وكما قيل - ليس للسان عظم ويكسر العظم، ويكسر القلوب ويقتلها برصاص الكلمات. الإنسان مدين إلى الصمت إذا كان يعرف أنه لن يستطيع أن يجعل عقله يسبق لسانه في الكلام، وحديثه موغل في إثارة الأعصاب ومضطجع على مفردات اعتلال سُلطوية تحت تأثير انفعال مؤلم، خالياً من التهذيب والتفكير الجذّاب لمراعاة مشاعر الآخرين، وهو ما يؤدي إلى حال اضطراب تقود إلى مداخل الترصّد والضغينة.

من هم مُسممو الأبدان؟

مُعلّمةُ تقول: أنقذونا من عدوى الطاقة السلبية. أعاني في المدرسة من نماذج تُسمم الأبدان كل صباح، لا يُعجبهم العجب، ولاهم لهم إلا نقل الطاقة السلبية لأجواء المدرسة بكثرة النقد والتذمر، وتتساءل: كيف السبيل لأجواء مُفعمة بالطاقة الإيجابية حتى نتمكن من أداء رسالتنا التعليمية بجدٍ ومثابرة ومتعة؟ وكيف يُمكننا أن نُسطّر ملحمة القدوة للطالبات، وقد غلبت علينا شِقوتنا وخزعبلات بعضنا النفسية؟

ولإجابة صوت المُعلّمة أقول: إنه العجز التنظيمي والقيادي «سيدتي» الذي أوصل حال مدرستكم إلى ما وصلت إليه، إدارة المدارس علم وفن وموهبة، تستطيع بهذه القدرات خلق الأجواء الإيجابية الماتعة، واستئصال ما يُعكّر صفو قدسية ومكانة التعليم.

حاكم عربي يقول: من أنتم؟

عندما انفجرت الثورة الليبية برزت صفات الحاكم العربي المُستبد، كان لا يلتقي بالشعب إلا عندما تتحرّك غرائز غرور الاستبداد؛ ليُشبع ضعف البصيرة بأصوات التصفيق والهتافات، وعندما خرجوا في غير موعد كان هو وحده من يُقرر الوقت والزمان والمكان، أطلّ عليهم من شرفة الأبراج العاجية وأخذ يصيح: من أنتم؟ ولم يعلم الجاهل وقت ذاك أنه أسقاهم آخر السّم الزّعاف وسمم أبدانهم، فأنكروا وجود من أنكرهم، وقرّروا ذبحه على طريقتهم الخاصة.
وزير، وكيل، رئيس شركة، مدير؛ نماذج ماذا يقال عنه؟ من هؤلاء المسؤولون، من يفتحون أنفس الموظفين وشهيتهم والمجتمع برمّته من بواكير الصباح؛ تواضعهم الجم يزيدهم احتراماً وقوة، نزاهتهم تُطوّقهم بألق الإعجاب والثقة، علمهم ومعرفتهم ديوان ثقافة ينهل منه الوطن بالإبداع وحسن الأداء؛ يسْعدُ الناس ويتسابقون لمقابلتهم، ويخرجون مُتعطّرين بطيب وقيمة وجدّية الحديث وحسن الخلق.

وفي الاتجاه المعاكس هناك مسؤولون من يتلذذون بتسميم الأبدان، تحيتهم في الصباح عبوس وقطب الحاجبين، والرّمي بحجارة الانتقاد من دون تمعن أو بحث منطقي؛ ويبيحون لأنفسهم وهم على كرسي المسؤولية قواميس المعاني والكلمات حُلوها ومُرها، حسنها وسيئها، أغراهم في ذلك صفوف المُستقبلين من المُطبلين والخاضعين، والمُتضاحكين حتى من كلمات إهانة مُوجّهة إليهم من مسؤول أباح لنفسه وأطلق العنان للسانه ليقول كل شيء من دون اهتمام بالمشاعر وكرامة البشر، أما الكاظمون الغيظ والعافون عن الناس فحال ألسنتهم في مثل هذه المواقف تردد بيت الشعر الخالد لأبي الطيب المُتنبي:

(ومن نكد الدنيا على الحُر أن يرى**عدواً له ما من صداقته بد)

الابتسامات الصفراء إن خرجت مسحوبةً من تلابيب مواقف المجاملة، خلفها أفئدة، وبين الضلوع دم ولحم، وفي الدماغ ذاكرة لا تنسى، وطوبى لمسؤول يبكي الناس عليه لا يبكون منه. يقول السيد جاك ويلش، الذي قاد أكبر شركات العالم لنجاح مُذهل: «كل شخص في العالم يريد أن يكون له صوت وكرامة، وكل شخص يستحق هذين الشيئين، وبكلمة «صوت» فإنني أعنى الأفراد الذين يريدون فرصة التعبير عن أنفسهم، وسماع أفكارهم، وآرائهم، ومشاعرهم، بغض النظر عن جنسياتهم أو جنسهم، أو عمرهم، أو ثقافتهم، وبكلمة «كرامة» أعني أن الأفراد بحكم الطبيعة والغريزة يريدون أن يلقى عملهم ومجهودهم وشخصهم الاحترام الكافي». ويا ليت السيد جاك ويلش أضاف نصيحة للقادة وقال: لا تُسمموا أبدان العاملين معكم بإثارة أعصابهم وهز كرامتهم والتشكيك فى قدراتهم، لا تُدمروا روحهم المعنوية وطاقاتهم الإيجابية بمرارة وحماقة الألفاظ ؛ لو تشعرون بحجم الكارثة المعنوية عليهم لوليتم الأدبار من الخجل على أنفسكم !!