القاموس الطبقي

عندما تريد أن تتعرف على التدرج الطبقي في مجتمع ما، فبإمكانك أن تتبع لغة الشارع والنعوت التي يتنابز بها العامة لتعرف من خلالها وعبرها، تموضعات الشرائح وتمايز الفئات بين بعضها البعض، فإن كانت نعوت الانتقاص والتصنيف الآن لدينا تزدحم بجنسيات العمالة، حيث جعلناهم الطبقة الأدنى في المجتمع في الوقت الحاضر، لكن عبر التاريخ لم تخرج الفئات المهمشة من(نساء وأطفال ومختلفي لون البشرة) من تلك القائمة وظلت مقيماً أزليا فيها، ليتميز ويتفوق الحضور الذكوري بجميع قوانينه وشروطه.

وهو أمر كما ذكرت متجذر ومتغلغل في نسيج ثقافتنا على سبيل المثال لم يجد الجاحظ نقيصة يحط بها من شأن أحد أعدائه (محمد بن الجهم) أكثر دناءة وخسة من أن يشبهه بالنساء!! فيقول (هو منحرف عن الجادة يخبط خبط العشواء، ويحكم حكم الورهاء، ويناسب أخلاق النساء، لأن المرأة لا تسمو إلى منازل السادة، ولا تروم منافسة القادة، وليس لها من عقلها مادة، همها قصير وركنها ضعيف، وصدرها ضيق، ورأيها منتشر، وفي قوى هواها فضل على قوى عقلها، وسخف رأيها غامر لرجاحة حلمها، لا تعرف حدود الاعتدال، ولا مواقع الاقتصاد، ولا التوسط في الأمور، ولا عواقب التدبير).

ولا يمكن أن نرجع هذا الموقف العدائي ضد النساء إلى شخصية الجاحظ نفسه فقط بانقطاع عن محيطه والنبع الثقافي الذي كان يستقي منه، فرغم أن الجاحظ ظل أعزباً ولم يعاشر امرأة تلطف وتدجن نفوره من النساء، ورغم أنه تميز بقبح خلقته/ إلى درجة أن الخليفة المتوكل استقبح أن يدرّس أبناءه؛ لذا لم يكن يجد قبولاً أو استلطافاً من معشر النساء، ولكن أيضاً هذا لا يفسر موقفه العدائي ضدهن، مالم يكن هناك محيط ثقافي وفكري منتج ومساهم في شيطنة النساء، حيث يقول الجاحظ في موضع آخر من رسائله (الغضب في طباع الشيطان، والهوى يتصور في صورة المرأة).

ونعرف أن في زمن الجاحظ في القرنين الثالث والرابع الهجري، كانت قد استقرت الحاضرات الإسلامية في المدن، وأحكم إغلاق الأبواب على النساء، ولم تعد المرأة موجودة في الفضاء العام كما هو الحال في مطالع عهد الرسالة حينما كانت موجودة في النص المقدس (القرآن الكريم) بكرامة واحتفاء وعبر سور كاملة باسمها تعكس مكانتها وقداستها، أو كمشاركة في تأسيس القوانين والتشريعات أو عبر حضورها كفاعلة ودافعة للأحداث.

لكن في الحواضر الإسلامية ومع تأثرها بقوانين الحرملك في الثقافات السابقة سواء الفارسية أو البيزنطية، ظهر سجن الحرملك بمعناه الملموس أو المعنوي وأقصت النساء عن الفضاء العام.

لذا كان كمون المرأة الطويل في هذه المنطقة الغامضة خلق عنها وحولها كثير من الأساطير والخرافات التي كانت على الغالب تشيطنها وتحجب عنها بعدها الإنساني، مع مافي هذا من انعكاسات سلبية تولد إجحافاً وتقصيراً يعرقل تمكينها من حقوقها الشرعية والمدنية والإنسانية، وأيضاً مع مافي هذا من ظلم يحجبها عن قطف حقول آمالها وقدراتها.

وهذا الغياب هو بالتأكيد الذي تخلق بداخله ذلك النص العجيب للجاحظ وإلى جواره آلاف النصوص على امتداد التاريخ التي تهمش وتحط من قيمة المكون الأنثوي في ثقافتنا.. والتي نستدنيها بمناسبة يوم المرأة العالمي لنحاول أن نفهم أو نعلل أو نفسر.. ما يحدث ضدهن وباسمهن..

نقلاً عن جريدة "الرياض"