خبير أجنبي
أصبحنا نستعين بمقاطع لناشطي حقوق عالميين وصور مشاهير متعاطفين كي تقنعنا بأن مايحدث في غزة الآن هو جريمة حرب هي الأبشع في هذا القرن، الوجدان الجمعي العربي بات بلا ذاكرة مساحات بيضاء جوفاء، وداخل الملكوت الأبيض الفارغ يستحلبون الصور لعلها تمطر على ذاكرة جدباء أو ترمم ثقوبها.
ولكننا لا نعرفهم.. في أي المخيمات يقبع هؤلاء الأطفال ؟ غزة حمص أو صنعاء، صورهم تتالي بلا مبالاة لاهثة بشكل سريع وخاطف، رؤوس وبقع دم قديم وأطراف يخالطها الغبار وذراع متفحمة أو لربما هو سخام لبارود مطور يجرب للمرة الأولى من المصنع الأمريكي مباشرة على ذراع الطفل الفلسطيني الذي اختار العالم أن يرفعه على امتداد قرن فوق صليب المجازر الملاجئ والمنافي وصهد بحر غزة أمامه يغلي على امتداد ناظريه كمرجل من زئبق.
ولكننا لا نراه والذاكرة لاتستجيب لتوسلاتنا.. لانستطيع أن نتتبع سلالات الدم المسفوك التي تستوطن أرض العسل واللبن.. لا نستطيع أن نحدد ما طبيعة معطف الحزن الذي يجب أن نرتديه.. في أي الخيام والملاجىء يقبع هذا الوجه.. اكتسحتهم قذيفة مسامرية مع الفجر لكن ظل منهم الكثير، لكن هؤلاء الكثير هل سيسمح لهم الوقت المرور إلى المساء ليفطروا على منقوشة مغمسة بالزعتر والزيت أم فقط سيلوكون برودة المنيوم ثلاجة الموتى؟
هل نبحث عن فتوى لتحدد لنا لون رداء الحزن الذي يجب أن نرتديه هذه المرة؟ وكيف يجب أن نمارس طقوسه؟ هو لطم أخواني أو نحيب سلفي.. آه ياغزة ضللنا الطريق إليك فعذرا كل خرائطنا مغمسة بماء الضلال.
غزة لم تكن تتسوق في المول العربي الكبير، كانت فقط تريد رغيفًا رابعًا في حافظة الخبز.. وكانت تريد كهرباء ليمتد عمر الطفل الخديج في الحاضنة ليوم آخر.. وكيس دقيق إضافيًا يمرر إلى جار جائع بعد ثماني سنوات من الحصار إنها أم الهزائم حينما نستعين بالخبير الأجنبي ليقنعنا بنزيف الخاصرة.. أم الهزائم تسمح لنا فقط أن نكتب بطاقات دعوة لحفلة تنكرية، وعاصفة الربيع العربي لم تجلب لنا سوى الأربعين حرامي، ولكن كلمة سر المغارة لم تكن أفتح ياسمسم بل أفتح يانيران السعير والتقمي غزة.
تشتجر الرماح بين الفصائل ولم نعرف الحكاية كلها ولأن جسد الطفل المضرج الذي يمتلك يدًا واحدة ونصف جمجمة والنصف الآخر طارت به القذيفة مع الحكاية، بينما أصبحت الأخبار مصنعا هائلا للفجائع، فلا ندري أي خبر سنختار لنثرثر حوله الليلة ونقطع به بقية أمسيتنا ؟
هل في خزانة المجازر القديمة متسع لملف طازج ؟ ملفات دير ياسين وصبرا وشتيلا.. وغزة.. وغزة.. وغزة.. ازدحمت الخزانة القديمة ورفضت أن تستقبل مجزرة أخرى.. المجزرة الآن لا تكتفي أن تحصي عدد قتلاها ال600 في 14 يوما بل همها الآن أن تبحث لها عن واسطة لتجد رفا يستقبلها في أرشيف المجازر الفلسطينية.
غزة تتحول إلى كربلاء.. دفقات النواح الموسمي الذي لا يسترد شيئاً ولايعود بتموز أو الحسين، كلاهما قد انشغل في مهمة أخرى، وترك غزة تخبر أولادها أن حالة الموت لن تسترد البشير.. بل هناك فقط نذر وصفارات وأزيز طائرات.
غزة يكفنونك مرتين صباحا بأيدلوجية المرشد وطهران وفي المساء بدخان حطام خلفه مرور آخر طيارة فوق حي الشجاعية.. ولكن في الجنازة لم يكن يمشي خلفك سوى طفل حافٍ وامرأة مسنة وقطة أرعبتها الوحشة.. آه ياغزة بتنا بحاجة إلى خبير أجنبي يقنعنا بضلال قضيتنا..أنها أم الهزائم.
نقلاً عن "الرياض"