عمَار.. يا مصر

أول كتاب تعلمناه كان إما قد كُتب في مصر أو طبع في مصر، أول معلم تهجينا نحن وإياه طلاسم السبورة كان إما مصرياً أو درس في مصر، أول بعثة من طلابنا غادرت، استقلت مركبتها إلى مصر، أجيال متعددة منا حين قدمت إلى هذا العالم تلقفته يدا قابلة مصرية، أول طبيب كتب لنا روشته كان مصرياً.

أول أغنية لامست شغافنا لحنت في مصر، وفوق قطعة قماش من الشاش الأبيض أسدلناها فوق الجدران تبدى نجوم مصر يخطرون ويغنون ويصنعون عمقا مدهشا مذهلا لأذهاننا اسمه.. السينما.

لن أستعير هنا المفردات السياسية التي تخبرنا دوما أن مصر تمثل عمق العالم العربي وهي ذات ثقل استراتيجي وهي التي تسهم في توازن التيارات المعتدلة في العالم العربي وما هنالك، لأن تجربة مصر لاتعمم وكل منا يمتلك تجربته الخاصة مع مصر سواء عندما زرناها كسائحين بعد أن رسمت الروايات خرائطها في أدمغتنا نتأمل فتيات جاردن سيتي المنعمات اللواتي يكتبهن إحسان عبدالقدوس، أو فتوات الحارة الشرسون الذين يكتبهم نجيب محفوظ.

أو نحن نتتبع سيرة ومخاض النهضة العربية الحديثة والتي كتب الكثير من فصولها في مصر، مصر جنة الكتب.. مكتبة مدبولي وسور الأزبكية، مصر الثرية العامرة بجميع التوجهات والأطياف بين اليمين واليسار بين البنّيين (حسن البنا إلى جمال البنا) أو بين السيدين (سيد سابق إلى سيد القمني).

مصر هي القلب التي يوازن الأجنحة في العالم العربي، تنسدل بهيبة وجلال جوار نيلها بوقار نصب فرعوني عريق، ليس هناك جموح أو طفرات عنيفة روح متدينة نورانية تكمن في أعماقها.. لا يعمر اليسار فيها طويلا فالدولة الفاطمية أسست الأزهر لتشاغب الهيمنة السنية، ولكن الأزهر استجاب لشروط بيئة مصر المعتدلة الهادئة وعاد يمثل الإسلام الذي ترضى عنه الأغلبية.

ثارت النظريات القومية واليسار العربي وما لبثت أن انكمشت وعادت مصر عن جموح اليسار، وقعت معاهدة السلام مع إسرائيل في نفس الوقت الذي كان فيه طلبة الجامعات والمثقفون المصريون يسيرون المظاهرات المتصلة ضد المعاهدة، اختطف الإسلام السياسي حقيبة الدولة وثورة 25 يناير لكن مصر لم تجد لها مقعدا في أقصى اليسار وسرعان ما عادت إلى اعتدالها.

عمار يامصر.. نحن نرقب أن تسترد مصر عافيتها وتوهجها وتعود مراكب الهوى تتهادى فوق نيلها، نترقب أن تنجد أيزيس روح أوزريس من تحت ركام العالم السفلي.

مصر منها خرجت نهضة العالم العربي وإليها تعود. نترقب أن تنهض من وعكتها وتعود للعالم العربي، أكثر صحة ونضارة.

عودي لنا بدستور وطني شعبي مضيء يكون أنموذجا للجميع، عودي للعالم العربي بعد أن يعود العسكر إلى ثكناتهم ويترسخ فيك حكم مدني قائم على سلطات مستقلة وشفافية وحقوق إنسان، عودي وقد بدأت عجلة الاقتصاد المصري بالتعافي والانتعاش.

عودي لنا تفوقاً يعكس خيرات أرضك وعقول وخبرات أبنائك، لأن تقهقرك سيكون مدوياً على العالم العربي.. وأنت التي تمتلكين السبورة الكبرى التي تهجى فوقها العالم العربي أبجديات النهضة..

مصر قد يكون في ماء نيلك بعض ترياق ضد تخلف العالم العربي المزمن.

عمَار يا مصر..

نقلاً عن صحيفة " الرياض"