مقعد «الإعلام» في جامعة الدول العربية

منذ نحو ٧٠ عاماً والإعلام العربي يوجِّه طاقاته المختلفة لمحاربة ومعاداة العدو الإسرائيلي، ولم يستطع أن يؤثر في مسيرتها التوسعية والاستيطانية، ولم يدخل ضمن حساباتها في مواجهة العرب مجتمعين أو متفرقين؛ لأن إسرائيل متيقنة تماماً من أن خطورة الإعلام العربي وتأثيره تكمن في تقاطعه مع مصالح الدول العربية في ما بينها؛ لهشاشة أوضاعها الداخلية ورداءتها، وبنية الفساد المتغلغلة في أركانها.

بقيت إسرائيل «متفرجة» على الظاهرة الصوتية تنهش في الجسد العربي، وتكتمل سعادتها كل يوم تشهد فيه الساحة العربية ظهور قناة فضائية أو صحيفة؛ لأنها ستضيف مزيداً من تراكم الأعباء السلبية والخلافات بين أمة لغة الضاد.

سباق الأنظمة العربية على أشدِّه في ساحة الاستقطابات الإعلامية، إما أن تكون معي وأنا أطهِّر المجتمع ممن يعبثون ويرفعون أصواتهم بمطالبَ لم يحنْ أوانها، بالحرية والديموقراطية ومحاربة الفساد والعيش الكريم، أو أنت ضدي عندما تُظهر وتُشجع على تلك المطالب المشروعة، فالمساس بالأمن القومي في قاموس الأنظمة العربية من يطالب بالتغيير والتطوير، وحق المشاركة في الإدارة واتخاذ قرارات يُبنى عليها مصير ومستقبل أمة.

نظام الحكم الفئوي الطائفي، الذي قاده نوري المالكي في العراق، أصدر حكماً غيابياً وغبياً على معظم وسائل الإعلام العربية، عندما وصفها بالمعادية والمناهضة لاستقرار العراق ووحدته، وهو على أرض الواقع كان يمارس أبشع أساليب القمع والتهميش لمكونات أساسية ومؤثرة للشعب العراقي، وقبله «بن علي» والقذافي ولحق بهم نظام بشار وعلي عبدالله صالح، ثم جاء حكم العسكر في مصر بثقافة عسكرية، لا تتقبل دور الإعلام إلا عندما يكون في اتجاه إجباري واحد، يصب في مصلحة ما يطلقون عليه المصلحة العليا للبلاد، وهم وحدهم -العسكر- من له الحق في تفسير معانيها وأهدافها ولغتها.

عجز الإعلام العربي بمختلف وسائله عن التأثير في سياسة تخلف الفرقاء في الصومال، وهم يتلذذون بتمزيق وحدة بلادهم إرْباً إرْباً، غير آبهين بما يُكتب ويُقال، حتى ملّوا وتركوهم وشأنهم.

وعلى جانب الثقة الوطنية الصامدة لم يتمكن الإعلام الأميركي -عميق التجربة والخبرة- بهجومه ونقده المستمر، من اختراق التماسك الكوبي والفنزويلي، على رغم طول الخلاف السياسي وشراسته مع الولايات المتحدة الأميركية، وعادت أميركا قبل أسابيع تتحدث عن فتح صفحة في العلاقات السياسية والاقتصادية مع كوبا.

الثقة بين الحكام والمحكومين، المؤطرة بعقد اجتماعي مريح ومتجدد، قوة وطاقة هائلة، تصغر أمامها أساليب الوسائل الإعلامية ودسائسها، مهما كانت قوة نفوذها وإمكاناتها، بل إن الوسائل الإعلامية المعارضة تولد ميتة، ومصيرها سلة مهملات شعوب محصنةً بعدالة اجتماعية، وأعمال مؤسسية تشريعية وبرلمانية ورقابية، وقيادات واعية حكيمة، هدفها الأول والأخير المصلحة العامة.

لست ممن يستسيغون منهج تناقضات القنوات المؤدلجة ببوصلة غطاءات وحسابات سياسية فوضوية، أكبر حجماً ونفوذاً وقدرةً من إمكانات صانعيها، وأعجب من قنوات أخرى «منافسة»، على النقيض تماماً، لا تزال تستخدم غرف أخبار مثلجة، مرهونة بمصالح وحسابات تدفقات نقدية، وكلتا الحالتين تطوقهما منصات تواصل مليونية فضائية، تسابق الريح في نقل الأخبار والتعليقات والصور، حتى إن صانعي الأخبار والتحليلات في القنوات الفضائية يتسابقون بالمنافسة -في منصات التواصل الاجتماعي- على طرح آرائهم المناقضة -في كثير من الأحيان- لسياسة وسائل إعلامية يعملون بها.

امتداداً لثقافة وسياسة عقود من الزمن، لا تزال الدول العربية مشغولة بالاستقطابات الإعلامية، بل إن القوى الناعمة أصبحت على أجندة محادثات القادة وكبار المسؤولين، ومن أساسيات لعبة خيوط وطواحين التفاوض. تحريك الساكن منهج مرفوض جملة وتفصيلاً، ولم نعتد على تحويل التحديات -مهما كانت خطورتها- إلى فرص تمكينية؛ تُصوت الغالبية بالرّضى عنها، وتنصرف الشعوب للتدافع نحو صناعة المستقبل.

ما دامت القوى الإعلامية العربية المخشوشنة أحياناً، والناعمة أحياناً أخرى، وفقاً لاتجاهات المصالح مقلقة وتقض مضاجع أنظمة الحكم العربية، ويعتبرونها سلطة ثانية، فليكن لصُنّاع الإعلام العربي مقعد في جامعة الدول العربية الميتة إلا من ذكريات تسميتها، ويمر بمرحلة نزول درجات الاهتمام حتى يصل إلى نظرة العالم المتحضر له كسلطة رابعة. أما كيف ومتى؟

ربما بعد قرن من الزمن، ويا زماناً عربياً ضاع في الزمن!

نقلاً عن جريدة " الحياة"