المعلم أهم من الوزير!

في زمان ضاع في الزمن، مدير مدرسة حكومية ابتدائية لم يكن رجلاً منظماً ولا عادلاً، وكانت المدرسة آنذاك أشبه ما تكون بديوانية اشتراكية يتزعمها غير المؤهلين تجديفاً على العقل، الاستبداد من أجل الدراسة، فصول تعج بمثقلات تدريس الحشو للأدمغة مدفوع بديكتاتورية عصا غليظة ربما تُدمي أيادي بيضاء وترتاح قبل المساس بكفوف سمراء، وقد تكون السمراء ضحية لشكوى ودموع ألم أوقدت شعلة انتقام، الزيارات النفعوية لم تنقطع لمكتب المدير العام، وكأنه يدير مورداً استثمارياً لتمويل مصروفات مدرسة خاصة!

شدد مدير المدرسة في الوقت نفسه قبضته على أخبار وتحركات المشرفين والمفتشين التربويين، ما أتاح له الإشراف المطلق على رصد برامجهم التفتيشية المبرمجة والفجائية، كانت المدرسة تسجل قياسات دولية في التنظيم والنظافة والانضباط عندما يطلق المدير إشارات الاستعداد لاستقبال فريق المفتشين، ابتسامات موسمية يوزعها الأساتذة من دون خجل من عبوس وترهل مستدام!

انشق المدرس «محمد» عن الطبائع الموسمية للمدير وشلة الهرج والرحلات، لم تعجبه تجربة التنويم المغناطيسي التي يطبقها المدير على المدرسة والطلاب، وأخذ يحرك المياه الراكدة، كان المدير يسابق المفتشين التربويين عندما يحين موعد زيارة هذا المدرس في الفصل، ويلقي كلمة عصماء في الثناء على كفاءة المدرس وانضباطه، على رغم وضوح علامات التململ على المدرس، بدأ يشرح للمفتشين التربويين فلسفته للتربية والتعليم، وآثار الضجيج المدرسي غير المنضبط على مستوى الطلاب.

قاطعه المدير المرتبك، يقصد الأستاذ قرب المدرسة من سوق المدينة، وأخذ في شرحه الكذوب يلوك المعاني لوكاً مدافعاً عن عقيدته التربوية السمجة، وبعد التفاتة من مفتش تربوي نحو المدرس، قال محمد: يا حضرات المفتشين التربويين الأفاضل، الضجيج الذي أقصده ليس من أصوات عابرة لأسوار المدرسة، إنه ضجيج عدم الفهم العميق لمعاني وأساليب وقيم العملية التربوية والتعليمية.

نظر مدير المدرسة نظرة تحمل رسالة إلى طالب تجاوز سن البلوغ ولا يزال متجمداً في السنة السادسة الابتدائية، فهم الطالب/ الرجل ما يقصده المدير فقام وقاطع حديث المدرس وقال بصوت عالٍ مرتبك: الصحيح يا مفتش أن هذا المدرس «معقّدْنا» المدرسين ينجحون وهو يرسبنا، والمدير ما قصر أبد أبد، تحرك المدير باتجاه الطالب ووضع يده اليسرى على كتفه ثم مثل بضربة بيده اليمنى على اليسرى، ضحك الطالب الساذج، ومعها فهم المفتشون التربويون ما يقصده المدرس بالضجيج!

غادر المفتشون التربويون المدرسة بعد أن رفضوا إلحاح المدير على دعوتهم لتناول طعام الغداء في مزرعته، وكان الغداء من نصيب شلة المدير من المدرسين، لم يخفِ المدير المستذكي توجسه خيفة مما حدث ومن التقرير السلبي الذي قد يقدمه المفتشون لمدير التعليم في الوزارة.

تفاوتت آراء المدرسين وهم يحتسون القهوة بعد تناول طعام الغداء، فضحك سعد الدين (مصري الجنسية)، وقال للمدير: «مش مدير التعليم صديق أخو خوينا، المشكلة اتحلت، هاتوه واعزموه واكرموه، الخير كثير خصص له خمس نخلات من النبوت الطيبة دي، واعمل حفلة بالمدرسة على شرفة وما تنساش الهدية، المهم اسبق التقرير قبل ما يتقدم، ويا مدرسة ما دخلك مفتشين!».

ما شاء الله عليك يا سعدالدين، مدرس ومخطط داهية، باكر العشا عندي في المزرعة على شرف أخو خوينا، علشان نرتب الأمور، وأنت يا أستاذ سعدالدين لا تحضر باكر علشان أخاف ننكشف! «يا لسذاجة هذا المدير هو أنا رئيس عصابة واللا إيه» لسان حال سعدالدين في تلك اللحظة!

استجاب مدير التعليم لدعوة المدير، وفوجئ بحضوره مع عدد من المسؤولين في إدارة التعليم، وارتجفت ركب المدير عندما صافح المفتشين التربويين، وبعد أن أخذ المسؤول مكانه في مجلس المزرعة سأل عن المدرس «محمد» فانهالت عليه الأعذار من كل حدب وصوب، وقال المسؤول أتمنى أن أراه في المساء بجانبي.

«اختبص المدير» وهو يسمع كلام المسؤول، وكاد يسقط وبين يديه سلة رطب يضعها أمام مدير التعليم؛ عَمّ الارتباك مناسبة الغداء، ولم يجرؤ مدير المدرسة تنفيذ خطة سعدالدين بتقديم هدية النخلات!
تسابق الجميع في المساء على المدرسة لحضور حفلة التكريم، وجلس الأستاذ القدير «محمد» بجانب مدير التعليم بناءً على رغبته، وبعد كلمات المدح والتبجيل، وأناشيد الحفاوة ومحبة الوطن ترجل المسؤول واعتلى المسرح، ثم أعلن خبراً صفق له مدير المدرسة وشلته كثيراً، الأستاذ الكفؤ «محمد» أصبح مديراً في إدارة التعليم في العاصمة، هذا مكانه الطبيعي كما ذكر مدير التعليم!

يحمل سجل تاريخ التعليم في بلادنا، تفريغ المدارس من الكفاءات المؤهلة، وأتوجه لسمو وزير التربية والتعليم بسؤال مفصلي لتطوير التعليم في السعودية، متى سيحين الوقت الذي نرى فيه المبدعين والمميزين هم من يقودون العملية التربوية والتعليمية في مدارسنا، بدلاً من تكديسهم في غرف الوظائف يقلبون أوراق البيروقراطية؟

لن يتحقق هذا ما لم يحظَ المعلم بمكانة وحقوق الوزير، أليس المعلم، هو المهم والأهم والأكثر أهمية؟

نقلاً عن "الحياة"