استراحة «كاشو»

كل شيء يبدو في حياة الشاب مغموراً بطاقة وحيوية، متمرداً على حياة المسؤولية، منفتحاً على التقاط ما يسمع ويرى، حال الركض تداهمه في منامه وصحوته، يُناطح بالأفكار ويُفشِل حالات الهدوء وحسن الإسماع، ابتسامة الاستهزاء تبدأ عنفوانها عندما يريد أن يُشكّل ملامح شخصيته، ينطلق بعدها في رحلة بحث عن مجموعة من الأصدقاء لإشباع دائرة حياة المراهقة، يسمع من أستاذ الجامعة رسالة الاستقلالية في التفكير وبناء الشخصية، ومن هنا يبدأ رحلة حياته الثانية.

أين أبي؟ تأتيه الإجابة سريعة من والدته: في الاستراحة مع الأصدقاء، ينطلق مسرعاً، يُسلّم ويأخذ مكانه في دائرة أصدقاء والده، دقائق صمت الاحتفاء بالشاب لم تَطُلْ، إذ استرسل بعدها من كان يتحدّث عن الإحباطات التنموية، ويرد عليه آخر: إنه الفساد الذي أصبحنا نأتمر بأمره، ويقفز بالحوار رجل يغلب عليه التدين: إنها معاصي البُعد عن الأمانة والقيم وأخلاق المؤمن ومخافة الله، جل وعلا.

الشاب يستمع إلى الحوار باهتمام بالغ، وينطلق رجل ضحوك ليفجّر الموقف ويقول: الحظ السيئ جمعني بكم أيها السوداويون، أشتاق إلى لقياكم كل أسبوع وأخرج من هذه الاستراحة مشوشاً بخليط عجيب: مآسٍ، إحباطات، فساد، آيديولوجيا، مستقبل كسواد الليل، «وش قصتكم؟ ريحونا من هالنقاش البيزنطي، تكفينا المحطات الفضائية العربية.. أنتم ترددون ما تسمعون.. فكونا خلونا نعيش براحة لو يوم في الأسبوع؟».

سمع الرجل الضحوك قهقهة رجلين متجاورين من أصدقائه ونفرت منهما كلمة «متخلّف»، اكفهرّ وجهه وثارت أعصابه الباردة وقفز مطلقاً العنان للسانه بأبشع الكلمات في حقهما، انقسم جمع الأصدقاء إلى فريقين، فريق مؤيد له وآخر معارض، ودب خلاف وصل إلى حد المشاجرة. غادروا جميعاً الاستراحة بعد أن قرروا فض هذا التجمع الأسبوعي إلى غير رجعة «كاشو للعقلاء».

ظل المشهد الدراماتيكي مستحوذاً على تفكير «الشاب» وهو في طريق عودته إلى المنزل، يُقلّبه يميناً وشمالاً فلم يستطع الحصول على مبرر مقنع، فأقنع نفسه أخيراً أنه ربما ما حدث يفوق مستوى تجربته القصيرة في الحياة، وقرر أن يتجنب الحديث مع والده فيما حدث احتراماً ومنعاً للإحراج.

ساقت مساوئ المصادفة «الشاب» حضور مناسبة والد زميله في الجامعة، أعمار الحضور تتراوح بين 40 و50 عاماً، كان الحديث قبل تناول طعام العشاء عن سوق الأسهم، فالبائعون قبل الانتكاسة يبتسمون، والمتورطون مكفهرو الوجوه، وكان من بين الحضور محلل للأسهم معروف في الأوساط المالية، التزم الصمت وهو يسمع بين الحين والآخر كلاماً موجهاً إليه، يتجاهله بتغيير اتجاه الحديث إلى موضوع آخر، انحشر صدر من كان موجوعاً بالخسائر من سوق الأسهم بسؤال استفزازي فقال: «وهقتونا يا أنصاف المحللين، سوق الأسهم واعدة، الاتجاه ينبئ بارتفاع، حتى ضاعت «تحويشة» العمر، حسبنا الله ونعم الوكيل»، انسحب محلل الأسهم الشهير من الجلسة، ولحق به آخرون بعد أن غابت لغة الحوار الهادئ وتحولت إلى هرج ومرج. «كاشو لجيل الوسط».

هذا الجيل لا يصلح لنا ولا يناسب تفكيرنا، فلديه خلافات وعصبية واتهامات، هكذا استنتج «الشاب»، وقرر مع مجموعة من زملائه في الجامعة استئجار استراحة يقضون فيها ساعات يومية، ازدهرت الاستراحة بطاقات الشباب، وتحول مجلسها إلى دوائر للعب «البلوت»، ويحوم في أجوائها دخان «المعسل»، وبدأ الصّراخ بـ«كاشو»، وهذه المرّة للورق، يعود الصلح سريعاً لطاقة الشباب التسامحية، هكذا ديدنهم ينفضّون ويعودون، أفكارهم لم تتعود على الخصومة وروح الانتقام.

ينطلق من جهاز التلفزيون صوت موسيقي مقدمة برنامج رياضي، تنفض دوائر لعب «البلوت» ويلتف الشباب إلى سماع تحليل مباريات كرة القدم وآخر الأخبار، يُطل قادة التعصب والاستفزاز لنحْر الروح الرياضية في عقول الشباب، ويبدأون في بث الفرقة والكراهية، تتعالى أصوات الحضور من شباب الاستراحة بالشتيمة والسباب والانقسام بين مؤيد لوجهة متعصب هلالي، وآخر نصراوي. سباق التعصب على أشدّه بين ضيوف البرنامج لحال الاستقطاب والشهرة، معه بدأ عراك حقيقي بين فريقين من شباب الاستراحة، وتم فض الاشتباك بطردهم من المالك.

عاد «الشاب» الذي فرّ من عراك الفريقين من أصدقائه أسفاً محبطاً، لم يستطع النوم قبل أن يُفرّغ هماً انحبس في صدره، فكتب في مدوّنته اليومية: «أشعر بخيبة أمل من جيل يلاحقنا بخيباته، فريق يجلد ذاته من دون أن يتحدّث عَمّا أنجز، وفريق لا يحسن آداب الحوار، وفريق لم يسبق له ممارسة كرة القدم، حوّل أماكن المتعة والروح الرياضية إلى مصطلحات مُقزّزة وسوق رخيصة ليحقق مكاسب شخصية على حساب الأخلاق والقيم. إنني أعيش في زمن «استراحة كاشو».


نقلاً عن جريدة "الحياة"