مصطفي محمود.. نجاح في الأدب وفشل في الطب!!
أولى محطات حياتي لم أخترها، وبالتالي لا أعلم إذا كانت محطة نجاح أم فشل، وهي محطة ميلادي أواخر عام 1921م في شتاء ديسمبر الدافئ وقتها في بلدتي شبين الكوم عمق الريف المصري بمحافظة المنوفية. تلقيت تعليمي الابتدائي حتى الثانوي بمحافظة طنطا وعندما نجحت بتفوق التحقت بجامعة فؤاد الأول. مع الموسيقا أما أولى محطات النجاح الحقيقي فقد تبلورت في مرحلة دراستي الثانوية ثم الجامعية، فرغم التحاقي بكلية الطب وتخرجي فيها عام 1952م، إلا أنني بدأت اكتشف في نفسي قدرات أخرى بخلاف الميل إلى إلى العلوم والطب وهو عشقي للموسيقا والأدب وتزامن العشقين في ذات الوقت. وأهمية هذه المحطة بالنسبة لي أنها أدت دورا في تكويني الحسي في مرحلة مبكرة من حياتي، فالشعور بالفن أو الأدب أو كليهما معا يمنح الإنسان رهافة غير عادية في إحساسه بكل ما حوله ومن حوله، وقد تمكن مني عشقي للموسيقا فعملت مع بعض الفرق الموسيقية وأنا في مرحلة دراستي الثانوية، وبدأ الأمر سرا دون أن تعرف أسرتي شيئا، وعندما تطور الأمر بأن بدأت هذه الفرق ترسل إلى المنزل في طلبي قامت الدنيا ولم تقعد، فقد رفضت أسرتي تماما اتجاهي في هذا الاتجاه، وللطبيعة المراهقة التي تحكم هذه السن تصورت أن هذه محاولة منهم لسرقة حريتي وحرماني من طريق أرغب في السير فيه، فتركت منزل أسرتي وفضلت العيش بمفردي وأنا ما زلت طالبا كنت أعزف وقتها على العود، ثم بدأت أعيد النظر في هذا المشروع ربما لصعوبة الطريق وربما لتغلب النزعة الأدبية لدي على حبي للموسيقا، وكان أن تجمد مشروعي الموسيقي هذا. القطة وفي هذه الفترة نفسها كانت محطة نجاحي التي أنظر إليها الآن بعين الرضا، وهي محطة التجربة الأدبية والصحفية التي بدأتها في المرحلة الثانوية، ثم تبلورت في مرحلة الدراسة الجامعية، بعملي في مجلة الرسالة وكانت من أشهر المجلات الأدبية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الميلادي الماضي. وكان أول قصة تنشر لي عام 1947م بعنوان القطة الصغيرة وهي محطة لها مذاق خاص، أول الأشياء دائما نجاحها له مذاق خاص. ترك الطب وهناك محطة فاصلة في حياتي وكانت بعد تخرجي بعدة سنوات فقد مارست الطب لمدة 6 سنوات، وتخصصت في الأمراض الصدرية، ولكني لاحظت شيئا في غاية الدهشة، وهو أن المرضى الذي يأتون إلينا في المستشفى الحكومي للعلاج يشفون ثم يعودون مرة أخرى يعانون نفس المرض الذي تم علاجهم منه، وقادتني دهشتي لاكتشاف أن العلاقة بين هؤلاء المرضى وأمراضهم مرتبطة بشكل كبير بأوضاعهم الاجتماعية، ومن هنا بدأت أدرك عدم جدوى ما أقوم به، وكان القرار بترك مهنة الطب والتفرغ للأدب والصحافة، فبدأت بمجلة روز اليوسف، ثم انتقلت إلى مجلة آخر ساعة لفترة قليلة، قبل أن أستقر بدار أخبار اليوم ولأبدأ رحلتي مع القلم والمستمرة حتى الأن. هتلر محطة إحباط انتابتني منذ ما يزيد على 30 عاما وبالتحديد في فترة الستينيات، كتبت مقالا أهاجم فيه الزعيم النازي الشهير هتلر، فأعتبروني أهاجم السلطة في ذلك الوقت، وتم رفدي لمدة ثلاثة أشهر، وأسقط في يدي لأنني مخلوق يعشق الحرية وبالذات حرية الرأي والتعبير، ويكره كل ما يمس أو يقترب منها، لذلك تبلورت كتاباتي الأدبية وتمحورت أساسا حول الإنسان كموضوع للبحث والمعرفة، ربما ابتعدت بعض الشيء عن التناول التقليدي لهذه الفكرة، وهدفي هو تطبيق المنظور الديني والعلمي في مجال الأدب لكي تصل إلى القارئ في النهاية فكرة الإيمان المتكامل المستند إلى حقائق ومنطقية وعقلية. 11 سبتمبر محطة تأمل بعد 11سمبتبر 2001م، فكرت وتأملت وأجدني أقول بمنتهى القناعة إنه لا علاقة بين ما حدث في أمريكا ذلك اليوم وبين ابن لادن، لأن التنفيذ متطور، ومنفذه متخصص في الأمر، وهو من أعمال اليمين المتطرف الذي يؤمن بأن الكون يوشك على الفناء، وبأن المسيح يوشك على النزول، وهم الداووديون، نسبة إلى النبي داوود، وزعيمهم ديفيد كوروش، وأتباعه حلت بهم كارثة من إطلاق أجهزة المخابرات الأمريكية الغاز السام عليهم في 19 أبريل منذ 9 سنوات ووفاة 80 منهم، مما جعل من ظلوا أحياء من هذه الطائفة أن يقسموا على أن يذيقوا الولايات المتحدة مرارة يوم أسود لم تشهده على مدار تاريخها، وأعتقد أن أحدهم الذي تورط في حادث تفجير مبنى أوكلاهوما دليل على ذلك. مؤلفاتي أما حياتي الأدبية فهي عبارة عن محطات نجاح متعددة، تضم العديد من المجموعات القصصية مثل: أكل عيش، والعنبر رقم 7، وشلة الأنس، ورائحة الدم، ونقطة الغليان، وأناشيد الإثم........لكن أقربها إلى نفسي روايات المستحيل والعنكبوت ورجل تحت الصفر، وخلال هذه الفترة كان تأثري واضحا بتشيخوف وديستوفسكي وتوفيق الحكيم. وداخل محطة النجاح الأدبية هذه هناك محطات فرعية بداخلها وكلها محطات مبهجة، فمحطة أدب الرحلات كانت ترجمة لأسفاري المتعددة، سواء لدول إفريقيا الاستوائية أو لدول أوروبا، والفارق بين القارتين كان مادة دسمة للعديد من هذه الكتب. وكذلك محطة الترجمة لأهميتها الشديدة بالنسبة لكل كاتب، فهي تنقله لعوالم أخرى غير عالمه، وتمنح بشرا آخرين فرصة التعرف عليه، وقد ترجمت بعض أعمالي لعدة لغات، فكتاب الله والإنسان مثلا ورحلتي من الشك إلى الإيمان ترجما إلى اللغة الإنجليزية، وروايتا المستحيل والعنكبوت ترجمتا إلى الفرنسية، وكتاب حوار مع صديقي الملحد ترجم إلى اليوغسلافية، ليتجاوز عدد مؤلفاتي 64 مؤلفا متنوعا. تكريم أما أكثر المحطات تأثيرا في حياتي، وكنت وقتها اعتبرها محطة فشل أثرت علي نفسيا تأثيرا كبيرا ولفترة طويلة فهي محطة اتهامي بالكفر، وكان ذلك في نهاية الستينيات بعد سلسلة من المقالات ثم صدور كتابي الله والإنسان والذي تمت مصادرته وتقديمي بعدها للمحاكمة التي طلبها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بنفسه، وكنا وقتها في شهر رمضان، وكان طلبه هذا بناء على تصريح الأزهر، واعتبار القضية قضية كفر، واعتباري كافرا، وكانت المحاكمة سرية، وقد اكتفت لجنة المحاكمة وقتها بمصادرة الكتاب دون حيثيات. أنا لا أدافع عن نفسي، فالموضوع برمته قد حسم، ووضحت الرؤية بشأنه وانتهى، ولكن ومنذ طفولتي كنت أذهب للمسجد مع أصدقائي، وكنا نجلس مع شيخ الجامع، وتدور في أذهاننا أفكار فنسأله، فيعنفنا فنصمت، كنا صغارا وكانت عقولنا تعمل وترغب في الفهم، وعندما كبرت وبدأت أعمل بالكتابة ناقشت أمور ديني بشكل واضح، وكانت كل المناقشات متعلقة بالبحث في أصول الدين والأوامر والنواهي والذات الألهية، وثارت ثائرة الأزهر والأصوليين خصوصا بعد صدور كتابي هذا الله والإنسان ولأني لا أحب العنف فقد استقبلت كل الاتجاهات المضادة لي ولفكري بهدوء ورددت عليهم بإقناع. وأذكر أن كامل الشناوي وكان يرأس تحرير جريدة الجمهورية كتب مقالا على صفحة كاملة بالجريدة يقول: أنا لا أفهم أن يقال عن مصطفى محمود ملحدا، فإذا كان هذا حقيقيا فأنا أشعر أنه يلحد على سجادة الصلاة!. ونفس محطة الإحباط والفشل هذه الخاصة بهذا الكتاب تحولت إلى محطة نجاح كبيرة، عندما طلبني الرئيس الراحل أنور السادات بعد أن أصبح رئيسا للجمهورية وأبلغني إعجابه بالكتاب، وطلب مني طبع الكتاب مرة أخرى، ولكني رددت بكتابي حوار مع صديقي الملحد لتتوطد بعدها علاقتي بالرئيس السادات وتصبح قوية ودائمة حتى وفاته. ومن بعدها، ولأني بشر يتأثر بما يحاك ضده، ولأنني ظللت لفترة أعاني شرخا داخليا من جراء ما حدث، فقد اتجهت كلية لكتابة القصة القصيرة، وما زالت ذكرى هذه الأيام تبعث غصة ومرارة في حلقي إلى اليوم. الوزارة محطة مهمة في حياتي عندما طلبني الرئيس الراحل السادات ليكلفني بمهام وزارة من الوزارات، فاعتذرت عن منصب وزير لسبب مهم جدا قلته له وقتها، وهو أنني فشلت في إدارة أصغر مؤسسة وهي زواجي، فقد كنت مطلقا لمرتين، لكنني وللحقيقة كنت أرفض السلطة بكل أشكالها. عائلتي وربما يسوقنا الحديث عن هذه النقطة إلى محطتي الفشل في حياتي الخاصة، بإخفاقي في زيجتين من امرأتين فاضلتين كان زواجي من كل منهما بعد قصة حب كبيرة، لكن استمرار الزواج في الحالتين كان محالا لعدم التوافق، فتم الانفصال بهدوء، إلا أن العلاقة بيننا إنسانيا ما زالت ممتدة، يجلها الود والاحترام بيننا، ولكني بعدهما لم أفكر في الزواج مرة ثالثة، اكتفيت بتجربتين، ويبدو أن تكويني النفسي كان عاملا مهما في عدم توفيقي في حياتي الخاصة. ولأن تجارب الفشل غالبا ما تؤدي إلى نجاحات فإن نجاحات أو محطات تجربتي الثانية كانت متعددة، لأنها أثمرت اثنين، وأذكر جيدا شعوري منذ ما يقرب من 25 عاما عندما علمت أن زوجتي حاملا، شعور غريب لرجل تجاوز الأربعين من عمره بسنوات، شعور جميل مختلف تغلفه حالة من حالة الانتظار والترقب لهذا الضيف القادم. وجاءت أمل ابنتي الجميلة، فكانت لحظة ميلادها محطة سعادة كبرى بالنسبة لي، لم يكن منطق الولد والبنت يرد في خاطري، لحظتها كانت سعادتي طاغية عندما لمستها للمرة الأولى وهي مخلوق صغير عمره ساعات، ووقتها كنت قد بعت روايتي المستحيل، واشتريت سيارة عمرها من عمر ابنتي كانت أول سيارة ولم أفكر ببيعها. وقد أسميت ابنتي أمل لأني كنت أحب أغنيتي أم كلثوم أمل حياتي والأمل، ولأنني رجل متفائل بطبعي وبعد أمل كان أدهم أبني أجمل زهرتين في عمري كله، فبرغم فارق السن بيننا كنت أستمتع باللعب معهما والهرولة خلفهما في المنزل، وتركت مساحة كبيرة من الحرية والنقاش الطويل بيننا. محطة نجاح أخرى لها مذاق مختلف تماما في حياتي وهم أحفادي، إحساس عميق بالامتداد والاستمرار و استدعاء ذكرياتي مع أمهم أعيش طفولتي مرة أخرى مع أحفادي، أرقبهم في مراحلهم المختلفة تماما مثلما كنت أفعل مع أمهم مثل الوردة بذرة ثم تورق ثم تتفتح فتصبح وردة نضرة..وتلك هي الحياة دائما. مسجدي هناك محطة تحول مهمة على المستوى الإنساني في حياتي، وهي مسجد مصطفى محمود بالدقي أحد ميادين محافظة الجيزة، فهو يضم 3 مراكز طبية ومستشفى أسس عام 1983، ويشكل قوافل للرحمة من 16 طبيبا تذهب للواحات فتقدم خدمات طبية وسلعا غذائية مجانية للفقراء، يستفيد منه حوالي 700 ألف مريض سنويا، به 4 مراصد فلكية ومتحف للجيولوجيا، ويضم أساتذة يعطون دروسا في الفلك، الأساس فيه النظر والتفكير في السماء والأرض كجزء من العبادة. ويضم المتحف مجموعة من الصخور الجرانتية والفراشات المحنطة بأشكالها المتنوعة، وقطعا لمعادن ذات ألوان جميلة، ومجموعة رائعة من أسماك الزينة، وبعض الكائنات البحرية كنت مهتما بجلبها من أماكن عدة في أسفاري المختلفة، وذات يوم جاءني رجل أمريكي يزور المتحف، ووقف أمام فراشة وسألني باستخفاف ما الذي يعنيه هذا؟ وكانت الفراشة على شكل ورقة شجر ميتة ذابلة، حتى لا تأكلها الحيوانات، قلت له هذا، وقلت له أيضا إن من خلقها لا بد أن يكون عالما في الجينات، لأنه وضع جينات النباتات في جينات الحيوانات، ولم يفعلها عشوائيا وإنما فعلها بهدف ولم يستطع صديقي الملحد الرد. الكعبة هناك محطة سعادة حقيقية استوقفتني لأتساءل عن أسعد لحظة في حياتي، كان هذا منذ 21 عاما بالتحديد، هل هي لحظة رأيت أول قصة تنشر لي، أم لحظة تخرجي في كلية الطب، أم لحظة حصولي على جائزة الدولة في الأدب، أم نشوة الحب الأول والسفر الأول ووصولي إلى ارض إفريقيا العذراء، أم لحظة قبضت أول ألف جنيه في حياتي، أم لحظة وضعت أول لبنة في بناء مركزي الإسلامي بالدقي. لحظات السعادة والنجاح في حياتي لا تحصى، لكن هناك لحظة أخرى وهي بالضبط منذ 21 عاما اختلط فيها الفرح بالدمع بالشكر بالبهجة، لحظتها سجدت لله فشعرت أن بدني يسجد وقلبي يسجد وعظامي تسجد وضميري يسجد وروحي تسجد. لحظتها خمد القلق داخلي وأدركت أني عدت إلى وطني الحقيقي الذي جئت منه، وأدركت هويتي وانتسابي، هذه اللحظة كانت عندما زرت الكعبة كانت لحظة بطول الأبد. وبعدها شغلتني هذه اللحظة بسؤال آخر عن مسألة طواف هؤلاء البشر في خشوع وتبتل، كيف لهؤلاء الطوافين حول الكعبة أن يحارب بعضهم بعضا؟ هل صدقوا حينما طافوا؟.