من شطحات الصبا.. حنان أبي
ومضت في ذهنه الفكرة عندما شاهد في الصباح كومة التبن وقد وضعها أبوه أسفل المنزل. سوف يقفز من السطح على كومة التبن، ويستمتع بالطيران في الهواء ولو للحظة في أثناء سقوطه من السطح على الكومة. سوف يفعل ذلك قبل أن يتحول التبن إلى غذاء لبقرتهم الوحيدة، ويخرج روثا ذا رائحة نفاذة تحمله أمه وتجعله مثل الفطيرة الكبيرة لتصنع منه أقراص الوقود بعد أن تجففه على سطح المنزل... سطح المنزل الذي سوف يقفز منه على التبن وكأنه الطيار يهبط بالمظلة التي سمع ابن عمه يقول إنها ـ الباراشوت ـ لن يستخدم مظلة أو باراشوت، فهو أكثر شجاعة من الطيارين الألمان، وسيقفز بكل ثقة على كومة التبن. لكن الشجاعة التي يمتلكها تخونه أمام عصا أبيه التي يقتلعها من شجرة متفرعة ويطلق عليها عادة اسم النقز. لقد حاول أن يكون له نقز، كما لأبيه نقز، لكنه لم يستطع سوى أن ينتزع فرعا صغيرا من الشجرة لا يصلح أن يكون نقزا. سوف يضربه أبوه إذا علم أنه أفسد كومة التبن التي كومها الأب كأحد أهرامات الجيزة التي لم يرها، وإنما سمع عنها من ابنة خالته التي وصفت له الهرم كمثلث متساوي الساقين، فزادت الهرم غموضا على غموض حتى صنعت له ابنة الخالة هرما صغيرا من الطوب، وأفهمته أن القياس مع الفارق. كانت فكرة القفز تلح عليه إلحاحا شديدا طوال النهار، ويناديه هرم التبن لكي يقفز فوقه، يكاد يسمع نداءه، لكنه لم يقفز إلا في الليل إثباتا لشجاعته الخارقة في الظلام دون مظلة، وبرهانا على جبنه الفائق في الخوف من أبيه. سوف يقفز عندما يتعالى شخير أبيه ويصبح أعلى من مدخنة الفرن البلدي الذي تخبز عليه أمه، وتصنع له فيه ما لذ وطاب من أطعمة مثل الأرز المعمر بلبن البقرة... سوف يقفز على التبن قبل أن تلتهمه البقرة ويتحول إلى لبن الأرز المعمر والروث الذي يصنع منه أقراص الوقود للفرن الذي... جاءت اللحظة الموعودة بعد أن تعشى مع أبيه وصلى معه العشاء جماعة. نام الأب، وتناوم هو ثم تسلل بعد أن اطمأن على نوم الجميع، وصعد إلى السطح ومن حسن حظه أن القمر كان غائبا. القمر الذي يفضح اللصوص كان كريما معه كعادته دائما، أليس صديقه؟ يتحدث معه ويناجيه ويبثه الشوق في أن يصعد على متنه ويمتطي صهوته ليسبح في بحر الظلمات. قفز، ثم اكتشف أن القمر خدعه، وأن أباه حمل التبن للبقرة، وأن ساقه قد دقت، وأن صراخه أقوى من شخير أبيه، وأن أباه يحبه مثلما تحبه أمه، فقد حمله إلى مستشفى القرية والدموع تطفر من عينيه، ولم يهدأ إلا بعد أن اطمأن عليه ووضع الطبيب جبيرة حول ساقه المكسورة. برغم الألم كان سعيدا لأنه نفذ ما عقد عليه العزم وقفز، ولأن أباه يحبه، وكان تعيسا لأنه اكتشف خداع القمر، ولأن ابنة خالته أشاعت عنه أنه مريض بداء المشي في أثناء النوم. ? طبيب نفسي، عضو الجمعية المصرية للطب النفسي