كـرم حاتمي

كان الحاج إبراهيم رجلا في العقد الخامس من عمره، قد شاب شعره، وتغضن جبينه، ويدل مظهره على أنه قاسى في حياته الشيء الكثير. وكانت تميزه تلك الابتسامة الحلوة التي تعلو شفتيه فتسر الناظر إليه، وتلك البساطة في سلوكه واتصاله بالناس. كان الحاج إبراهيم قد افتتح مطعما صغيرا قبالة ميناء بيروت، تحت فندق بسيط لو قوم بالنجوم لم يزد على نجمة واحدة، وكان زبائنه على الأغلب من رواد الفندق الذين يركبون البواخر ومن عمال الميناء وموظفيه. وكان موظفو الميناء وعماله يشهدون للحاج إبراهيم بنظافة مطعمه على بساطته، والجودة في طبخه وطعامه، وحسن معاملته لزبائنه، والمبالغة في أسعاره إن كان الزبون غريبا. وفد إلى الفندق من دمشق طالب يريد السفر إلى باريس في فرنسا ليتم دراسته، وكان الزمن في الأربعينيات من القرن الماضي، والناس يسافرون بالبواخر إذ لم يكن السفر بالطائرات ميسورا. واضطر الشاب إلى الانتظار في الفندق بضعة أيام ريثما يتم موعد مغادرة الباخرة بيروت. أحس الشاب بالجوع فخرج من الفندق يبحث عن مطعم فلم يجد أمامه سوى مطعم الحاج إبراهيم، فدخله، وتلقاه الحاج إبراهيم بالترحاب، وقاده إلى منضدة صغيرة وسارع يمسحها بخرقة بيضاء وهو يرحب بالشاب، ثم عرض عليه ما عنده من أنواع الطعام، فاختار الشاب نوعا واحدا مع طبق من الشوربة الحساء. وقدم الحاج إبراهيم الطعام فجعله مع رغيفين من الخبز على المنضدة، وأحضر له إبريقا من الفخار له فتحة صغيرة في جانبه كحلمة الثدي قد ملأه ماء، ووضعه إلى جانب الطعام، ودعا له بالهناء والشفاء. أعجب الشاب بجودة طعام الحاج إبراهيم وطيبه وحسن مذاقه ونكهته، وخصوصا الشوربة التي أسرته بطعمها ولذتها وحين انتهى من الأكل وأراد دفع ثمن الطعام هاله السعر الكبير المرتفع للشوربة وغلاء ثمنها، إذ إن الحاج إبراهيم كعادته زاد الأسعار إذ رآه غريبا. لم يكن في وسع الشاب أن يجادل في ثمن الطعام فدفعه مرغما وخرج وهو يكاد يتميز غيظا، لكن حنقا شديدا ترسخ في قرارة نفس الشاب. وصل الشاب إلى باريس والتحق بدراسته. وخلال العام كله لم يرم ورقة كتب عليها، ولا تخلص من جورب تمزق أو قميص اهترأ أو تبان صار ممزقا أو ممسحة مسح بها الأرض أو خرقة نظف بها مائدة الطعام. حتى إذا شعر أن ما تجمع عنده صار كافيا عمد إلى ورقة فكتب عليها بخط عريض كبير يا حاج إبراهيم شوربتك طيبة لكن غالية وجعل الورقة في علبة صغيرة ولف حولها ما لديه من الورق والملابس والخرق والمهملات التي احتفظ بها حتى كونت رزمة كبيرة فجعلها في قطعة من قماش القنب وخاطها ثم ربطها بالحبال وكتب عليها اسم وعنوان الحاج إبراهيم، وحملها إلى مكتب البريد وأرسلها إلى الحاج إبراهيم على أن يدفع أجرتها عند الاستلام. كان الحاج إبراهيم جالسا في مطعمه حين حضر موظف البريد ينبئه بأن له طردا في قسم الجمارك واردا من باريس وأن عليه أن يستلمه، واستفسر الحاج عن مرسل الطرد من الموظف فنفى علمه بشيء. لم ينتظر الحاج إبراهيم، إذ أقفل مطعمه وراح يسعى إلى مركز البريد، وهو يخمن أن قريبا له أو صديقا يهديه هدية أو إرثا من قريب مجهول قد نابه. وفوجئ في مركز البريد بأن عليه أن يدفع أجرة الطرد فدفعها عن طيب خاطر وحمل الطرد إلى البيت فسارع في شق قماشته الخارجية وقطع حباله، وهو يمني نفسه الأمنيات، صحيح أن أجرة الطرد مرتفعة ولكن ما سيحصل عليه يفوق هذا الأجر بأضعاف. دهش الحاج إبراهيم من الخرق والملابس الممزقة والأوراق المستعملة فراح يرميها جانبا، متوقعا أنه لا ريب سيجد شيئا عالي القدر والقيمة، وحين رأى العلبة كاد يطير من الفرح فلا بد أن المأمول فيها، وأغمض عينيه وفتح العلبة ونظر بواحدة من عينيه فإذا ورقة مكتوب عليها، وفتح عينيه وحدق فيها: كانت جملة يا حاج إبراهيم شوربتك طيبة لكن غالية، فراح يلعن الشوربة وطابخها وآكلها وبائعها وشاربها ومن أرسل الطرد. وانتقلت دراسة الشاب من باريس إلى ليون، وكما صنع في المرة الأولى صنع هذه المرة ولكنه جعل المهملات في صندوق خشبي يستعمل لشحن البضائع.. وكما شرب الحاج إبراهيم المقلب أول مرة شربه للمرة الثانية وعاد ليلعن الشوربة وآكلها وطابخها... إلخ. وكان على الطالب أن يجري دورة في بلجيكا، وحقده على الحاج إبراهيم لا يغادره وباعتبار أن دراسته قد قاربت على الانتهاء فما صنعه في المرتين السابقتين صنعه هذه المرة ولكن بعد أن أحضر علبة معدنية كبيرة فجعل ضمنها علبة أخرى وجعل ضمن الاثنتين ثالثة، ولحم العلب من أطرافها حتى يعسر فتحها بعد أن وضع فيها ورقة تحمل عبارته الشهيرة: يا حاج إبراهيم... وأرسل العلب محاطة بالملابس والخرق والأوراق في صندوق جميل مدهون يوحي بأنه صندوق هدية. وحضر موظف البريد يخبر الحاج إبراهيم أن له صندوقا جميلا من بلجيكا. وصاح الحاج إبراهيم: لا أريده. وقال موظف البريد لكنه يا حاج إبراهيم ثقيل وجميل ويظهر أن فيه أشياء ثمينة.. وقال الحاج إبراهيم: لا أريده. وقال موظف البريد إذا ما رأيك أن تذهب معي إلى البريد فتستلمه وتعطيني إياه وأنا أدفع أجرة الشحن. حين سمع الحاج إبراهيم قول موظف البريد داخله الطمع وحدث نفسه بأنه لا بد هناك شيء نفيس في الصندوق حتى أبدى موظف البريد استعداده لدفع الأجرة فقال للموظف: لا.. لا.. سأذهب وأستلمه. كاد الحاج إبراهيم يبكي قهرا حين فتح الصندوق والذي غره مظهره وعندما تعب في فتح العلب الثلاث ليجد الورقة المعهودة وقام فوضع يده على المصحف ثم أقسم بالله العظيم أنه لن يستلم طردا بقية حياته. مضت الأيام، وانتهت دراسة الطالب، وعاد إلى بيروت، ونزل في الفندق نفسه، ودخل مطعم الحاج إبراهيم وطلب طبقا من الشوربة. وجلس الشاب يأكلها بالخبز متلذذا وهو يشعر بنشوة الانتقام والانتصار، وحين طلب منه الحاج إبراهيم ثمن الشوربة وجده مرتفعا فتبسم وأخرج المبلغ وهو يضعه في يد الحاج إبرهيم وقال: يا حاج إبراهيم شوربتك طيبة لكن غالية. وارتدت يد الحاج إبراهيم وكأن أفعى لدغته وترك المال في يد الشاب وأهوى على تلك اليد يقبلها وهو يقول: أنا مستجير بك وبعرضك وبشرفك وبحلمك وبعفوك وبكل أهلك.. تعال كل يوم وكل من المطعم ما تشاء ولا تدفع قرشا وخلصني من هذه الملعونة: يا حاج إبراهيم شوربتك طيبة لكن غالية