جدد حياتك !

سألني كيف وجدت التقاعد وقد أكملت سنة من ترك الوظيفة؟ وهل ندمت على التقاعد؟ واسترسل في الكلام وأطلق للسانه العنان وظن أنني ملزم بالتقاعد، وحسب أنني مكره على ترك الوظيفة. قلت ألا تعلم أن المسؤولية هم، وأن القيادة عناء، وكان الله في عون المسؤولين، فما أعطفني عليهم وإني والله أشفق لحالهم. يا صاحبي: إن الفراغ نعمة لمن أحسن الاستفادة، يقول صلى الله عليه وسلم : نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ . وقد وجدت الفراغ أجل نعمة وأسعد مكرمة، فقد بت أقرأ وأكتب، وصرت أتحرك وأسافر، وغدوت أسبح في عقول الآخرين، وأعيش مع العلماء والمفكرين أنظر في تراثهم، وأستمتع بأقوالهم، وأعتبر بآثارهم. وأسعد بهذه الأمسية وبتلك الندوة، بل صار النوم متعة بعد أن كان حسرة، وأصبح الزمن ملكا بعد أن كان مملوكا. يا صاحبي: إن تقديس الوظيفة والتعلق بها تخلف حضاري، وخلل فكري، أولاتراهم في الغرب يتركون مراكزهم القيادية ويسيرون مع الركب ويعيشون حياة عادية ويستمتعون بالوقت أيما استمتاع، فتراهم حينا مع القراءة والسياحة، وتلقاهم تارة مع المخالطة والمحاورة، وتجدهم يوما في هذه الأمسية ويوما في تلك الندوة. يا صاحبي إن الوقت قد حان أن تصحو من هذا السبات، وأن تعلم أن قيمة المرء في أخلاقه وتعامله، وبصدقه ووفائه، فالمراكز تزول والأخلاق تدوم. يا صاحبي: لقد مضى عام وما شكوت الفراغ، وانقضت سنة وما ندمت على القرار، بل والله أسفت على تأخري وندمت على استمراري. وإني أعيش ولله الحمد سعيد البال هادئ الأعصاب قرير العين، فالأمانة سلمتها والرسالة رددتها، وكان الله في عون الخلف فأمامهم مسؤوليات جسام ومهمات عظام. هذا وإني قد قرأت موقفا يروى عن الأحنف بن قيس ويكاد يصدق على سؤالك. يقول الراوي: قال رجل للأحنف: بأي شيء سدت تميما؟ فوالله ما أنت بأجودهم ولا أشجعهم ولا أجملهم ولا أشرفهم. قال: بخلاف ما أنت فيه. قال: وما خلاف ما أنا فيه؟ قال: تركي ما لا يعنيني من أمور الناس كما عناك من أمري ما لا يعنيك.