الكذب على الواقع

في الثمانينات عندما جاءتنا أول عاملة منزلية من «سيريلانكا» أرسلني والدي إلى البقالة، لأشتري لها قلم حبر جاف «أبو نص ريال»، وربطة من «ظروف»، و«بوك» ورقاً أبيض مسطراً، وكل هذه الأشياء لا تتجاوز قيمتها خمسة ريالات، وتكفيها لأشهر عدة، لتكون وسائل تواصلها مع عائلتها، وكانت رسالتها «العادية» تكلّف ريالاً أو اثنين، ورسالتها «المسجلة» التي تحوي شيكاً مصرفياً لذويها تكلّف خمسة إلى سبعة ريالات.

اليوم يشتري البعض لعاملته بطاقة لشحن جوالها كل أسبوع مع «المقاضي»، ولديها اشتراك «إنترنت»، إن لم تكن شريكة في «الواي فاي» المنزلي، ثم لدى عائلتها هناك هواتف جوالة أو ذكية لتشحن، و«إنترنت» ليدفع.
عاملتنا في الثمانينات كان راتبها 400 ريال، وفي التسعينات زاد إلى 600 ريال، والعاملات اليوم في السوق العادية أجورهن 1500 ريال، وفي السوق السوداء يصلن إلى ضعف هذا الرقم.

لست من المستبشرين بخبر الصفقة التي أبرمتها وزارة العمل، ومن خلفها مكاتب الاستقدام مع مكاتب العمالة البنغلاديشية التي حددت أجور العمالة المنزلية عند سقف 800 ريال، لأن القارئ الحصيف لتاريخنا الحديث يعلم أن هذه «ضحكة» كبيرة على الذقون، فالعاملات والسائقون حينما يفِدون سيهربون، أو سيطالِبون بالأجور العادلة المنصفة.

ومع مستويات الأسعار في كل أنحاء العالم، وازدياد حاجات الفرد الشخصية في مجال الاتصال والتواصل، وتزايد مستويات «الأنا» والذاتية الفردية في معظم بقاع الأرض، يصبح مثل هذا الأجر غير منطقي وغير منصف. من أغرب الأشياء في بلادنا، وربما في بعض «الخليج» المجاور أن يطالب الناس الحكومة ممثلة بوزارة العمل بتوفير استقدام العمالة المنزلية بأجور رخيصة وبخسة، وهم يعلمون حق العلم أنها غير كافية، والأغرب أن تسعى وزارة العمل لذلك، وتفتح نقاشات إعلامية، وتصاريح على مستوى وزاري، وهذا ما لم أره في أي من دول التقدم الاقتصادي والإنساني على حد سواء.

في أول الثمانينات كان «غسيل» العائلة الأسبوعي بحجم غسيلها اليومي هذه الأيام، وكان أفراد العائلة يقومون بأشيائهم البسيطة الخاصة، وربة المنزل قائمة على كثير من الشؤون، وكانت الفكرة بحق هي الحصول على مساعدة، واليوم نعرف جميعاً أن الفكرة هي الاتكال على هذه العاملة تماماً.

بالطريقة التي عليها معظم العائلات، وبحجم العمل الذي تُكلف به العاملات، وبعدد ساعات العمل فإن الأجر المذكور أعلاه، والذي تعاطت الوزارة معه كإنجاز لها غير منصف، ولن يحقق «الاستقرار» المنشود. هذا الملف الذي يحكي ألماً على المستوى الاجتماعي والصحي لكثير من البيوت.

إن هذا التسعير المخفض لهذه الخدمة يعني أن الحصول على عاملة وسائق هو حق كالحصول على التعليم والعلاج، بينما ما نحتاج إليه أن نكرّس قيمة العمل في أفراد الأسرة، وأن نعيد ترتيب حياتنا ومنازلنا بحيث تقل الحاجة إليهن، أما الحاجة للسائقين فهذه قصة تاريخية سيغتني من ورائها كثير من المؤلفين في المستقبل، كما اغتنت منها مكاتب الاستقدام، وفعل سماسرة السوق.

نقلاً عن جريدة " الحياة"