الطيب سرور الدنيا ونعيم الآخرة!!

لا يذكر الطيب بأنواعه إلا وتشتاق النفوس لاستعماله، وتشرئب الأعناق لأخذه، وتتطلع القلوب لرائحته. كيف لا وهو قوت النفس، وغذاء الروح، به تقوى وتنشط، وبرائحته العطرة تزول الهموم، ويعود للنفس نشاطها وحيويتها، الأغنياء لا يستغنون عنه، والفقراء قلوبهم معلقة به، فهو من زينة المرء ودليل مروءته وعقله، ومن أسباب التآلف والمحبة، وعلامة الكرم وحسن الضيافة. ومع هذا هو أصالة عربية، وسنة نبوية، ومكافأة أخروية، حسن في الحياة وفي الممات، في الدنيا والآخرة، ورد ذكره في القرآن والسنة، وحرص عليه سلف الأمة. النبي صلى الله عليه وسلم يوليه عناية كبيرة من أجل ذلك حرص عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأرشد إليه، واستخدمه في مواطن عدة، خاصة مع العبادات والطاعات والقربات، حتى بلغ من حرصه عليه الصلاة والسلام أنه قال: حبب إلى من دنياكم النساء والطيب، حديث حسن. بل إنه عليه الصلاة والسلام كان يحرص على أفضل الطيب وأجوده، ويكثر منه وهذا ما يدل عليه فعل عائشة رضي الله عنها حيث تقول: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأطيب ما يجد، حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته. بل روى عنه أنس رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يرد الطيب، ولذا تمسك بهديه ابن عباس فكان لا يرده، كما روى ذلك البخاري، بل إنه بوب على ذلك فقال: باب لا يرد الطيب. ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بالتطيب واستعمال الطيب فقط، بل كان عليه الصلاة والسلام يبدي رأيه في المقارنة بين أنواع الطيب المختلفة فقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المسك أطيب الطيب وروى أبو سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسك؟ فقال: هو أطيب طيبكم . رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح وبهذا يظهر لنا مدى عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالطيب، معرفة واستعمالا وتوجيها وإرشادا. الطيب مرتبط بكثير من العبادات وقد ارتبط الطيب والتطيب بكثير من العبادات، فكان من أسباب كمالها وعظم ثوابها، فن ذلك مثلا قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا خذوا زينتكم عند كل مسجد... قال ابن كثير رحمه الله تعالى لهذه الآية وما في معناها من السنة يستحب التجمل عند الصلاة ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد والطيب لأنه من الزينة. وورد النص على استعماله في السنة النبوية فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستن وأن يمس طيبا إن وجد رواه البخاري. وفي هذا أحاديث كثيرة كلها تأمر بالطيب يوم الجمعة. وانظر لفعل عائشة رضي الله عنها بالنبي صلى الله عليه وسلم ذلك الفعل الجميل الذي ينم عن محبة ومودة تقول رضي الله عنها: كنت أطيب رسول الله صلى اله عليه وسلم لحرمه، وطيبته بمنى قبل أن يفيض بطيب فيه مسك. متفق عليه وتعنى بالإفاضة، الإفاضة إلى عرفة. ونظرا لأثر الطيب في النفوس وتأثيره فيها نهى الرسول صلى الله عليه وسلم المرأة أن تخرج من بيتها إلى المسجد ومن باب أولى إلى غيره إذا كانت قد أصابت بخورا أو مست طيبا، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة. رواه مسلم مكانة الطيب عند السابقين ولا غرابة أن نجد عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالطيب والتطيب، فهو عربي يؤيده الوحي، والإسلام إنما جاء ليتمم مكارم الأخلاق، ويؤيد ما كان عليه العرب من أخلاق جميلة وأوصاف حميدة، ومن تتبع سيرة العرب وأخبارهم يجد أنهم كانوا على عناية عظيمة بالطيب والتطيب بالعود والمسك والريحان وغيره -والذي وصل إليهم في غالبه عن طريق التجارة التي كانت تأتيهم من خارج جزيرة العرب من الهند وغيرها - فقد كانت معابدهم تشتمل عليه، ومنازلهم لا تخلو منه، ومجالسهم عامرة به، وأشعارهم مليئة بذكره، ومن اطلع على تاريخهم وجد استفاضة ذلك عنهم. وإذا جئنا إلى السلف الصالح وجدنا اهتمامهم بالطيب اهتماما يدل على مروءتهم وعلو همتهم، تقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرنا فجعلناها عمرة، فأحللنا كل الإحلال حتى سطعت المجامر بين النساء والرجال. رواه أحمد في مسنده أفلا يدل قوله هذا على أن السلف - رجالا ونساء - كانوا لا يتأخرون عن التطيب والبخور متى حصل لهم وتيسر. بعض السلف اشتهروا بمبالغتهم في استعمال الطيب وقد اشتهر عن أقوام منهم مبالغته وحرصهم الشديد في استعمالهم الطيب، فمنهم ابن عباس، فقد جاء أن الناس كانوا يعرفون مروره من أي طريق من أثر وكثرة الطيب الذي كان يتطيب به. وهذا عمر عبد العزيز رحمه الله قد بلغ من ولعه بالطيب وحرصه عليه، أن الناس في عهده - قبل توليه الخلافة- كانوا يأتون إلى القصار -وهو من يغسل الثياب- فيضعون ثيابهم عنده لغسلها، ويطلبون منه أن يغسلها مع ثياب عمر بن عبد العزيز، حتى تنال ثيابهم من أثر الطيب الذي في ثياب عمر. وجاء في ترجمة الإمام مالك رحمه الله أنه كان يهتم بالطيب واستعماله، حتى أن كل من ترجم له وروى أخباره، ذكر ذلك عنه، بل كان - رحمه الله - لا يجلس لمجلس العلم ولا يروي حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا إذا كان متطيبا متعطرا. وهذا الإمام الشافعي كان على عناية كبيرة به حتى إنه أثر عنه قوله: أربعة تقوي البدن وذكر منها شم الطيب . ونجد أيضا ابن القيم ينص على ذلك في كتابه القيم زاد المعاد ويبين أن شم الروائح الطيبة مما يقوي البدن وينشطه. وخلفاء المسلمين وأمراؤهم وكبراؤهم كانوا ينفقون الأموال الطائلة والنفيسة، لجلب أجود أنواع الطيب والعود، كما كان الصناع في عهدهم يتفننون في صناعة المجامر وتزيينها بأنواع النقوش الجميلة، وربما بالغوا في ذلك مبالغة شديدة، وكانت اجتماعاتهم وحفلاتهم وأعراسهم لا تكاد تخلوا منه بحال، وانظر في ذلك ما فعله الحسن بن سهل وزير الخليفة المأمون عندما زوجه بابنته، وكيف أنه صرف على الطيب والعود والعنبر فقط، أموالا لا تكاد توصف، واجتهد في جلبه وجمعه، وبالغ في اختيار المجامر، هذا بخلاف ما قام بتوزيعه على الحاضرين. مؤلفات العرب والمسلمين لم تخل من التحدث عن الطيب ولا تعجب بعد ذلك عندما تجد علماء المسلمين وأطباءهم، يكثرون من ذكر الطيب في كتبهم ومؤلفاتهم، مبينين أنواعه وآثاره، بل وكيفية استعماله، وما ذلك إلا لما في استعماله من منافع جمة ومروءة ظاهرة. فابن سمجون -وهو من رجال القرن الرابع، وممن برع في صناعة الطب ومهر فيه- يقول: العود ضروب كثيرة يجمعها اسم الألوة ويستعمل من داخل ومن خارج، ويتجمر به مفردا ومع غيره، وفي الخلط للكافور به عند التجمير معنى طبي... وهو أحد الأشياء الستة الضرورية التي في صلاحها صلاح الأبدان. ونجد النويري صاحب كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب، يعقد بابا كاملا في كتابه هذا عن الطيب والتطيب، يبين فيه أنواعه وأصوله، وكيفية صناعته وأصول خلطه بغيره، وميزة كل نوع إلى غير ذلك. بعض أنواعه المعروفة في السابق وقد تحدث كثير من المؤلفين العرب وحكمائهم وأطبائهم، عن أنواع العود والطيب والرياحين وغيرها وبينوا ميزة كل نوع وأجوده وأحسنه، وأفاضوا الحديث في ذلك، وأفردوا له في تصانيفهم أبوابا وفصولا، كل بحسب زمانه، وممن تكلم عن ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله، ففي معرض حديثه عن العنبر يذكر بعض أنواعه فيقول : وبعد فضروبه كثيرة، وألوانه مختلفة، فمنه الأبيض والأشهب والأحمر والأصفر والأخضر والأزرق والأسود وذو الألوان، وأجوده : الأشهب ثم الأزرق ثم الأصفر. وأردؤه: الأسود. ويقول عن العود: وهو أنواع: أجودها: الهندي ثم الصيني ثم القماري ثم المندلي، وأجوده: الأسود والأزرق الصلب الرزين الدسم، وأقله جودة ما خف وطفا على الماء. الطيب بشرى أهل الإيمان ومن نعيم الجنان ولمنزلة الطيب في النفوس وأثره البالغ في القلوب، نجد أن الله جل وعلا جعله من ضمن ما اختص به عباده المقربين من النعيم، سواء عند قبض أرواحهم أو في الآخرة، ورد ذلك في آيات وأحاديث عدة، منها قوله سبحانه فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم ويقول سبحانه في معرض بيانه لما أعده الله لعباده في الجنة يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وجاء في حديث البراء في قبض أرواح المؤمنين قول الملائكة لهم ... أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه، أخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان. وروى البخاري ومسلم قوله صلى الله عليه وسلم في صفة أهل الجنة وما يجدونه من النعيم أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر... أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة يعني عود الطيب -.... . قال ابن القيم رحمه الله : الألوة هي: العود، والمجامر: حمع مجمر وهو ما يتجمر به من عود وغيره. وروى جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل أهل الجنة فيها ويشربون، ولا يتغوطون ولا يمتخطون، ولا يبولون ولكن طعامهم ذلك جشاء كرشح المسك... رواه مسلم وعن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة على كثبان المسك - أراه قال يوم القيامة-: عبد أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أم قوما وهم به راضون، ورجل ينادي بالصلوات الخمس في كل يوم وليلة رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينا أنا أسير في الجنة إذ عرض لي نهر حافتاه قباب اللؤلؤ، قلت للملك: ما هذا؟ قال هذا الكوثر الذي أعطاكه الله، قال ثم ضرب بيده إلى طينة فاستخرج مسكا، ثم رفعت لي سدرة المنتهى فرأيت عندها نورا عظيما. قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وروى أبو هريرة قال: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ... ثم قال: ويجلس أدناهم، وما فيهم من دني ، على كثبان المسك والكافور... رواه الترمذي هذا كله ناهيك عن ريح الجنة وريح الحور العين والتي لو اطلعت إحداهن على الدنيا لملأتها ريحا، كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم. ما يستحب له الطيب وكيفية تطيبه عليه الصلاة والسلام وقبل أن ننهي هذا الحديث يجدر بنا أن نعرض لما يستحب له التطيب، وكيفية تطيبه عليه الصلاة والسلام، فنقول: من تتبع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ومقاصد الشريعة يظهر لنا جليا أن الطيب والتطيب يستحب في المواطن التالية: 1-الذهاب إلى المسجد 2-عند الصلاة عامة والجماعة خاصة 3-عند صلاة الجمعة 4-عند الإحرام للحج أو العمرة 5-عند الإفاضة إلى عرفة 6-يوم النحر وقبل طواف الإفاضة 7-عند الأعياد والمناسبات 8-عند الزواج ونحوه 9-عند تغسيل الميت وتكفينه إلا المحرم لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وهذه بعض الأمور التي يحسن بالمرء أن يراعيها عند التطيب واستعمال الطيب اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. 1- أن يستجمر بالعود خالصا أحيانا، وأن يخلطه مع شيء من الكافور أو غيره من أنواع الطيب أحيانا أخرى، فقد أخبر ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستجمر بالألوة يعني العود غير مطراة، وبكافور يطرح معها. رواه مسلم وقوله غير مطراة أي غير مخلوط بغيرها من أجناس الطيب. وواضح من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل الأمرين جميعا. 2- أن يحرص على أن يكون الطيب في الرأس واللحية كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، إذ الرأس أشرف الأعضاء واللحية أشرف الشعور. 3- أن يكثر من الطيب من غير إسراف ويدل على ذلك قول عائشة رضي الله عنها السابق وفعلها. 4- أن يحرص قدر الإمكان على أجود الأنواع وأفضلها وأحسنها دون مبالغة وإسراف، وبحسب ما تسمح له حاله اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم كما أخبرت عائشة رضي الله عنها. 4- الحرص على اغتنام الأوقات الفاضلة التي يشرع لها التطيب حتى يزداد أجره ويعظم ثوابه.