معركة نهاوند (فتح الفتوح)
سبب المعركة: كاتب يزدجرد أهل الباب والسند وخراسان وحلوان ليتجمعوا فيوجهوا ضربة حاسمة لجيش الإسلام، وبالفعل فقد تحرك سكان هذه المدينة والمناطق وتكاتبوا واجتمعوا في مكان يقال له نهاوند. أرسل سعد بن أبي وقاص وكان قائد المسلمين في ا لعراق رجلا من المسلمين يقال له قريب بن ظفر العبدي رسولا إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فقال: بلغ الفرس خمسين ومائة ألف مقاتل فإن جاءونا قبل أن نبادرهم ازدادوا جرأة وقوة، وإن نحن عاجلناهم كان لنا ذلك قال له عمر: ما اسمك؟ قال: قريب، قال: ابن من؟ قال: ابن ظفر، فتفاءل عمر وقال: ظفر قريب إن شاء الله ولا قوة إلا بالله. استعدادات أمير المؤمنين وأخذ المشورة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسل عمر محمد بن مسلمة إلى سعد ليخبره أن يستعد بالناس لملاقاة الفرس، فقد نفرت الفرس بجانب يزدجرد وتجمعت على الفيرزان فغادر سعد الكوفة قاصدا عاصمة الخلافة فأخبر عمر بخطر الموقف شفاهة وقال: إن أهل الكوفة يستأذنونك في الاجتياح وأن يبدؤوهم بالشدة ليكون أهيب لهم على عدوهم، فاستبشر عمر وتفاءل أكثر فأكثر بقدوم السعد فقام على المنبر خطيبا بعد أن نودي الصلاة جامعة فأخبر الشعب بما يجري في جبهة الشرق واستشارهم، وقال: هذا يوم له ما بعده من الأيام، ألا وإني قد هممت بأمر وإني عارضه عليكم فاسمعوه، ثم أخبروني وأوجزوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ولا تكثروا ولا تطيلوا فتقشع بكم الأمور ويلتوي عليكم الأمر والرأي، أفمن الرأي أن أسير فيمن قبلي ومن قدرت عليه حتى أنزل منزلا وسطا بين هذين المصرين فأستنفرهم ثم أكون لهم درءا حتى يفتح الله عليهم، ويقضي ما أحب، فإن فتح الله عليهم كان أضربهم عليهم في بلادهم وليتنازعوا ملكهم. فتكلم رجال من أهل الرأي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن القوم لا يستصرخون بل يستأذنون في الانطلاق من العراق باتجاه نهاوند فائذن لهم يا أمير المؤمنين. فقال علي رضي الله عنه: أصاب القوم يا أمير المؤمنين الرأي وفهموا ما كتب به إليك مثل الخرز يجمعه ويمسكه فإن انحل تفرق ما فيه وذهب ثم لا يجتمع بحذافيره أبدا، والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثير عزيزين بالإسلام فأقم واكتب إلى أهل الكوفة فهم أعلام العرب ورؤساءهم ، واكتب إلى أهل البصرة أن يمدوهم ببعض ما عندهم. اختيار قائد المعركة: قال عمر بعد سماع هذا الرأي: أجل والله لئن نظرت إلى الأعاجم لا يفارقن العرصة وليمدنهم من لم يمدهم وليقولن: هذا أصل العرب، فإن اقتطعتموه اقتطعتم أصل العرب فأشيروا علي برجل أوليه ذلك الثغر غدا، قالوا: أنت أفضل رأيا، وأحسن مقدرة، قال: أشيروا علي به واجعلوه عراقيا. قالوا: يا أمير المؤمنين، أنت أعلم بأهل العراق وجندك قد وفدوا عليك ورأيتهم وكلمتهم، فقال: أما والله لأولين أمرهم رجلا ليكونن أول الأسنة إذا لقيها غدا، فقيل من يا أمير المؤمنين؟ فقال: النعمان بن مقرن المزني، فقالوا: هو لها. سفارة قبيل المعركة: اجتمع المسلمون حول نهاوند واجتمع الفرس فيها وأميرهم الفيزران. أرسل أحد قواد الفرس واسمه بندار العلج إلى جيش المسلمين: أن أرسلوا إلينا رجلا نكلمه، فذهب داهية العرب: المغيرة بن شعبة، بمنظر رهيب، شعر طويل مسترسل، أعور.. فلما وصل إليهم وجد بندار يستشير أصحابه، فقال بندار: بأي شيء نأذن لهذا العربي؟ بشارتنا وبهجتنا وملكنا فخامة وضخامة أو تتقشف له فيما قبلنا حتى يزهد؟ فأشار أصحابه عليه: بل بأفضل ما يكون من الشارة والعدة فتهيئوا له بأفخر الأثاث والثياب. دخل المغيرة عليهم فقربوا إلى جسمه ووجهه الحراب والنيازك يلتمع منها البصر وجند بندار حوله كي يزيدوا المنظر بهية، أما بندار فعلى سرير من الذهب وعلى رأسه تاج نفيس. قال المغيرة: فمضيت لما أنا قادم إليه فنكست ودفعت ونهنهت فقلت: الرسل لا يفعل بهم هذا، فقالوا: إنما أنت كلب، فتحمل المغيرة هذا في سبيل الله، (فهل شتم أحدنا في سبيل الله وتحمل ومن شتم وتحمل فله في داهية العرب المغيرة أسوة حسنة). يقول المغيرة: فقلت: معاذ الله! لأنا أشرف في قومي من هذا في قومه وأشار إلى بندار فانتهره الجند وقالوا: اجلس، فجلس، فتكلم بندار وترجم إلى المغيرة ومما قاله، إنكم معشر العرب أبعد الناس من كل خير وأطول الناس جوعا وأشقى الناس شقاء وأقذر الناس قذرا وأبعدهم دارا وما منعني أن آمر هؤلاء الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنشاب إلا تبخسا لجيفكم فإنكم أرجاس فإن تذهبوا نخل عنكم وإن تأتوا نريكم مصارعكم. قال المغيرة: فحمدت الله وأثنيت عليه، فقلت: والله ما أخطأت من صفتنا شيئا ولا من نعتنا، إن كنا لأبعد الناس دارا وأشد الناس جوعا وأشقى الناس شقاء وأبعد الناس من كل خير حتى بعث الله عز وجل إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم فوعدنا النصر في الدنيا والجنة في الآخرة (إذن لا خوف من أن نرى مصارعنا إن تم لبندار ذلك)، فوالله مازلنا نتعرف من ربنا منذ جاءنا رسوله الفتح والنصر، حتى أتيناكم وإنا والله لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبدا حتى نخليكم على ما في أيديكم أو نقتل بأرضكم وإني أرى بزة وهيئة ما أرى من خلفي يذهبون حتى يصيبوها. قال بندار: إن شئتم قطعتم إلينا وإن شئتم قطعنا إليكم، فعاد المغيرة واستشار النعمان فقال النعمان: اعبروا.. اللحظات الحاسمة: كان مما أعده الفرس لهذه الحرب حسك الحديد وهي قطع صغيرة من الحديد جعلوها مكيدة منهم للمسلمين حتى يمنعوا تقدم جيوشهم وخيولهم وقاموا بطرحها حول المدينة. وكان النعمان قد أرسل من المسلمين عيونا فساروا، فزجر بعضهم فرسه وقد دخلت في يد الفرس حسكة، فلم يبرح الفرس مكانه، فنزل صاحبه ونظر في يده فإذا حافره حسكة فعاد إلى جيش المسلمين وأخبر النعمان، أن سلاحا جديدا يظهر في المعركة لم يعهده سابقا، فقام النعمان يسأل أهل الرأي في جيشه فقال: ما ترون؟ فقالوا: انتقل من منزلك حتى يروا أنك هارب منهم فيخرجوا في طلبك، ثم تعود علهيم فتهاجمهم مرى أخرى ويكونوا قد نظفوا الطريق فانتقل النعمان حسب رأي الشورى من منزله ذلك وكنست الأعاجم الحسك فخرجوا في طلبه، فرجع النعمان ومن معه عليهم وقد عبأ الكتائب ونظم كل من في جيش الإسلام وعددهم ثلاثون ألفا، فجعل على مقدمة الجيش، نعيم بن مقرن، وعلى مجنيته: حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرن، وعلى المجردة القعقاع بن عمرو، وعلى الساقة: مجاشع بن مسعود. ونظم الفرس قواتهم تحت إمرة الفيزران وعلى مجنبتيه الزردق وبهمن جاذويه الذي ترك مكانه إلى ذي الحاجب ولما رأى النعمان جمعهم الكبير، كبر فكبر معه المسلمون فتزلزلت قلوب الفرس وحطت قواتهم. وقد ظلت الحرب بين الفريقين سجال، وكان الفرس خلالها في خنادق، فقال النعمان لقواده وأهل المشورة: ترون المشركين واعتصامهم بخنادقهم فهم لا يخرجون إلينا إلا إذا شاءوا ولا يقدر المسلمون على إخراجهم وقد ترون الذي فيه المسلمون من التضايق فما الرأي الذي به نستخرجهم إلى المناجزة وترك التطويل؟ فالنعمان يرغب في قصر وقت المعركة لكسب النصر بأقل الخسائر، فتكلم عمر بن ثنى وكان أكبر الناس يومئذ سنا، فقال: التحصين عليهم أشد من المطاولة عليكم فدعهم وقاتل من أتاك منهم، فرد المجموع عليه رأيه. فتكلم عمرو بن معد يكرب فقال: ناهدهم وكابدهم ولا تخفهم، فردوا عليه جميعا رأيه وقالوا: إنما تناطح بنا الجدران والجدران لهم أعوان علينا. فتكلم طليحة فقال: قد قالا ولم يصيبا ما أرادا، وأما أنا فأرى أن تبعث خيلا مؤدبة فيحدقوا بهم ثم يرموا لينشبوا القتال ويحمسوهم فإذا استحمسوا واختلطوا بهم وأرادوا الخروج أتوا إلينا استطرادا، فإنا لم نستطرد لهم في طول ما قاتلناهم وإنا إذا فعلنا ذلك منا طمعوا في هزيمتنا ولم يشكوا فيها فخرجوا فجالدونا وجالدناهم حتى يقضي الله فيهم وفينا ما أحب. بداية المعركة : وأقر الجميع هذا الرأي بعد تداول فأمر النعمان القعقاع بن عمرو أن ينشب القتال بعد أن رتب معه الخطة، فتقدم القعقاع وأنشب القتال، فخرج الفرس من خنادقهم، فلما خرجوا نكص القعقاع بجنده ثم نكص ثم نكص واغتنمها الأعاجم ففعلوا كما توقع طليحة وقالوا: هي هي؟ أي هي هزيمة المسلمين فتابعوهم وخرج الفرس فلم يبق أحد إلا من يقوم على الأبواب، وجعلوا يركبونهم حتى عاد القعقاع إلى الناس وانقطع القوم عن حصنهم وخنادقهم بعض الانقطاع، والنعمان بن مقرن والمسلمون على تعبئتهم في يوم جمعة في صدر النهار، وعهد النعمان إلى الناس عهده وأمرهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوهم حتى يأذن لهم ففعلوا واستتروا بالحجف من الرمي وأقبل الفرس على المسلمين يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراحات وشكا بعضهم إلى بعض ذلك ثم قالوا للنعمان: ألا ترى ما نحن فيه! ألا ترى ما لقي الناس فما تنتظر بهم! ائذن للناس في قتالهم، فقال النعمان: رويدا رويدا، قالوا له مرات كثيرة ما تنتظر بهم فيجيب بمثل قوله: رويدا رويدا وأوضح أن يرجو في المكث قبل الذي يرجون في الحث. واقتربت تلك الساعة التي ينتظرها النعمان، فركب فرسه وسار في الناس ووقف على كل راية يذكرهم بالله ويحرضهم على عدوهم ويمنيهم الظفر ثم قال: ما منعني من أن أناجزهم إلا شيء شهدته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله كان إذا غزا فلم يقاتل أول النهار لم يعجل حتى تحضر الصلاة وتهب الأرواح ويطيب القتال فما منعني إلا ذلك ثم قال النعمان: فإذا قضيت أمري فاستعدوا فإني مكبر ثلاثا، فإذا كبرت التكبيرة الأولى فليتهيأ من لم يكن تهيأ ويشد الرجل شسعه، ويصلح من شأنه، فإذا كبرت الثانية فشد الرجل إزاره وتهيأ لوجه جملته وليتأهب للنهوض فإذا كبرت الثالثة، فإني حامل إن شاء الله فاحملوا معا وإن قتلت فالأمير بعدي حذيفة وإن قتل فلان.. وعد سبعة آخرهم المغيرة. النصر العظيم وفتح الفتوح: كبر النعمان التكبيرة الأولى فتوضأ الجيش ليدخل جنة الخلد في طهر ظاهر في الجسد وطهر في الروح تظهر آثاره في حب الجهاد والاستبسال عند لقاء العدو، وكبر التكبيرة الثانية فحمل الجند السلاح وشدوا المئزر، ثم قال كلمات خالدة خلود الزمن نتحدى بها الأمم أن تصل في تربيتها مبلغ هؤلاء الرجال: قال: اللهم عز دينك، وانصر عبادك واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبدك، اللهم إني أسألك أن تقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عز الإسلام، أمنوا يرحمكم الله، فبكى الناس ورجع النعمان إلى موقفه والناس ينتظرون التكبيرة الثالثة، ودقت ساعة الإسلام وحانت ساعة الصفر، وانقضت راية الأمير انقضاض العقاب، والنعمان معلم يعرفه الناس بقلنسوته وأثناء تقدم القائد الكبير كالبرق بين الصفوف واستبشار الناس باستجابة الله دعاء النعمان إذ بدأ الفرس يتركون الساحة زلق بالقائد فرسه من كثرة الدماء التي سفحت في أرض المعركة فصرع بين سنابك الجيل وجاءه سهم في جنبه فرآه أخوه نعيم فسجاه بثوب وأخذ الراية قبل أن تقع وقبل أن يسجي أخاه ناولها إلى حذيفة بن اليمان فأخذها وتقدم الصفوف حيث كان النعمان، ولما علم المغيرة بمصرع الفارس قال: اكتموا مصاب أميركم حتى ننتظر ما يصنع الله فينا وفيهم لئلا يهن الناس. سقط الفارس فاستلم الراية فارس آخر، وطلب الفارس الجديد الشهادة كما طلبها الأول وقاتل كي ينالها واستبسل معه الجند، ولما أظلم الليل انهزم الفرس ومما زاد في خسارة هزيمتهم أنهم هربوا دون قصد فوقعوا في لهب دونهم فكان واحدهم يقع فيه وعليه ستة بعضهم على بعض وجعل حسك الحديد يعقرهم فمات في هذه المعركة التي دامت من الزوال حتى أول الليل مائة ألف أو يزيد قتل في اللهب وحده ثمانون ألفا وقتل ذو الحاجب بعد أن وقع عن بغلته فانشق بطنه وكان هذا مما حطم تنظيم الجيش كما هرب الفيزران. علم القعقاع بن عمرو بهروب الفيزران فعلم أنه لابد أن يجمع الجيش ثانية فتتبعه هو ونعيم بن مقرن فأدركاه في ثنية همدان في واد ضيق فإذا بقافلة كبيرة من بغال وحمير محملة عسلا ذاهبة إلى يزدجرد فعرقلت القافلة تقدم الفيزران ولم يجد طريقا فنزل عن دابته وصعد الجبل عله يختفي فتتبعه القعقاع راجلا فأدركه فقتله في الثنية فقيل بعدها: إن لله جنودا من عسل واستاق البطلان الفارسان العسل إلى جند المسلمين وسمين ثنية همدان ثنية العسل بعدها. تم النصر من الله لجند الله فجعلوا يسألأون: أين أميرها؟ أين النعمان بن مقرن؟ يسألون عن حبيبهم وقدوتهم، فقال لهم أخوه معقل (هذا أميركم قد أقر الله عينه بالفتح وختم له بالشهادة) فحزن الجميع عليه واحتسبوه عند الله وبايعوا حذيفة ودخلوا نهاوند وتابع القعقاع السير حتى دخل همدان.