معركة بلاط الشهداء

في رمضان 114هـ أكتوبر 732م. ما قبل المعركة: لم يكتف العرب بفتح الأندلس فقط وإنما عبروا جبال البيرينية البرانس وغزو فرنسا. كان ذلك عام 732م عندما أعد القائد العربي في الأندلس عبد الرحمن الغافقي جيشا كبيرا لغزو دولة الفرنجة .. مكتسحا جنوب فرنسا وزاحفا نحو الشمال قاصدا مدينة تور.. خاف أمراء الفرنجة من تقدم المسلمين، فنادوا للوقوف في وجه الجيش المتقدم في بلادهم ومنتصرا على كل من يقف بوجهه، وكان يومها في بلاط ملك الفرنجة وزير يسمى شارل مارتل رأى أن وصول العرب إلى ما وصلوا إليه يهدد دولتهم مباشرة ومن أجل ذلك داهم للتحرك سريعا للوقوف أمام الزحف العربي الإسلامي. تجمع لدى شارل مارتل جيوش من الفرنجة والسكسون والألمان، فقادها بنفسه ليوقف بها زحف عبد الرحمن الغافقي فالتقى الجيشان في مكان بين مدينتي تود وبواتييه، الأوربيون بقيادة شارل مارتل، والعرب المسلمون بقيادة عبد الرحمن الغافقي أمير الأندلس آنذاك الفتوحات التي سبقت المعركة: تحرك القائد عبد الرحمن الغافقي شمالا كما ذكرنا بهدف أولا إلى تحطيم قوة أكتانيه وإخضاع (أودوا أوديس) وأتى عبر جبال ألبت في 114هـم صيف عام 732م في الممرات رأسا إلى قلب بلاد أودو فاضطر هذا إلى طلب العون من رجال الفرنجة .. واستولى عبد الرحمن على مدينة أرل الواقعة على مصب نهر ردونة ثم دخلت جيوشه طلوشة تولوز وبردال أكبر مدن الأقاليم وبعد القضاء على المقاومة في هذه المدن أخذت المدن تتساقط أمامه بسرعة مذهلة في مقاطعة أكتانية. بعد ذلك رجع القائد عبد الرحمن الغافقي شرقا للقضاء على ثورة حدثت في إحدى المدن واستطاع القضاء عليها. ثم أخذ طريقه إلى مدينة تورس حيث دير سان مارتان الشهير وهناك وعلى ضفاف نهر دوردني إحدى روافد نهر الجارو وجرت معركة عنيفة بين الغافقي و الدوق اودو دوق اكيتانيه هزم فيها الأخير وتحطم جيشه شر تحطيم، ولكن الدوق تمكن من الانسحاب بنفسه والانسحاب إلى الشمال طالبا المساعدة والعون والاحتماء بشارل مارتل بعد أن كان المسلمون قد دخلوا بودو واحتلوها.. وتقدم عبد الرحمن ودخل بواتيه بعد صراع طويل وعتيق وشرع يستعد للسير شمالا نحو باريس، وكان الغافقي يتقدم سريعا نحو الشمال ويتابع انتصاراته.. موقع المعركة ووضع الجيش الإسلامي والروح المعنوية لكلا الفريقين: انتشرت قوات الجهاد بقيادة الغافقي في السهل الخصب الممتد بين مدينة بواتيه وبين مدينة تور على الضفة اليسرى لنهر اللوار ودارت المعركة الحاسمة في مكان يقع إلى شمال بواتيه في اتجاه تور في مكان يسميه العرب والمسلمين بلاط الشهداء. كان القائد عبد الرحمن الغافقي يبعد كثيرا جدا في تحركه شمالا عن قاعدة بلاد المسلمين حيث أصبح على بعد أربعمائة كيلو متر (400 كيلو متر شمال جبال ألبت) وجبال ألبرت تبعد تسعمائة كيلو متر عن القاعدة العاصمة قرطبة فتكون المسافة بينه وبين خط الإمداد (133) كيلو متر، وهذه مسافة كبيرة جدا تجعل طريقة إمداد الجيش بالمؤن والرجال والأسلحة والزاد أمرا عسيرا لاسيما أن معابر ألبرت كانت صعبة الاجتياز. ولو أن المدد والعدة وصلت إلى الغافقي حين طلبها لم تكن لتصل إليه في أقل من شهر نظرا لصعوبة الطريق، في حين أن شارل مارتل كان يحارب في بلاده وخطوط إمداده متصلة وأرض المعركة نفسها خط إمداد له حيث أنه بين مواطنيه وشعبه الذي التف حوله دفعا لنور القرآن والإسلام المندفع من الجنوب. كما أن غالبية الجيش الإسلامي كانت من البربر ولم تكن العلاقة بينهم وبين العرب ودية لاسيما أن القائد الغافقي قد أمر بقتل مونوسة عثمان بن أبي نعسة الخشعمي كما أن الغافقي لم يعمل على علاج الأمر بسرعة ليقرب إليه مجموعة من البربر المشهورين ليكونوا مساعدين أو مستشارين له في العمليات العسكرية مباشرة. كما أن عوامل البيئة الجغرافية والمناخية والبيئية لم تكن لتساعد على تحرك القوات التي لم تتعود على القتال في ظل الثلوج والمطر المنهمر والبرد القارص.. كما أن منطقة حوض نهر اللوار كانت منطقة غابات كثيفة والفارس العربي المسلم لم يكن يحسن ويجيد القتال في نطاق الغابات، لكن أسلوب الكر والفر الذي كان يستخدمه العرب والمسلمين لم يكن يصلح في مناطق الغابات والأحراش العالية. ثم أن طول المسافة وعدم إعطاء الراحة الكافية للدواب والخيول لاسيما أنه كانت قد خرجت لتوها من معركة الجارو مع أودو، كل ذلك كان له أثر مباشر في الروح الإسلامية لاسيما الخيول العربية كانت تعمل في الجو الدافئ وتخاف أكثر من الجو البارد والأمطار. إضافة إلى أن عبد الرحمن الغافقي كانت تنقصه القدرة على وضع خطة قتالية محكمة ولم يكن لديه جهاز مخابرات واستطلاع يمكنه من اكتشاف مواقع العدو حيث أنه واصل السير حتى لقيه الفرنجة مباشرة وجها لوجه، وكان الأحرى أن تكون هناك قوات استطلاع تقوم بدورها. أحداث المعركة: تراجع القائد عبد الرحمن الغافقي إلى سهول بواتيه لاتخاذ مواقع فيها بعد أن وصلته معلومات عن كثافة الجيش الإفرنجي إلا أن تحركات شارل كانت سريعة رغم ضخامة قواته وما لبث شارل أن دفع بعبد الرحمن وقواته جنوبا ليدرك مقدمة الجيش الإسلامي الزاحف عن طريق روماني والذي يؤدي إلى بلدة شاتلدوا الواقعة على نحو عشرة كيلو متر من مدينة بواتيه .. وبواتيه جنوب باريس بمائتي كيلو متر. ومن هنا كانت الأحداث: الانتصار الأولي للمسلمين: أول يوم من بدء القتال أحرز فيه المسلمون كسبا وانتصارا على الفرنجة الذين كانوا يدافعون والعرب يهاجمون، حيث كان الفرنجة كلهم من المقاتلين المشاة بينما كان العرب جميعهم من الفرسان، لم يتزحزح الفرنجة من مكانهم إنما بقوا واقفين في أماكنهم ملتصقين ببعضهم وواصل العرب القتال وكانوا يشنون الغارة تلو الغارة على الفرنجة والهجوم يتبع الهجوم وكثر القتلى بين الجانبين. وتذكر بعض المصادر أن الدوق أودو دل جيش شارل مارتل على مكان الغنائم حيث كان من عادة الجيوش الإسلامية وضع الغنائم في مؤخرة الجيش، وحيث كان الجيش الإسلامي مثقلا بالغنائم مع حامية قليلة العدد تقوم بالحراسة والحفظ .. وأن بودو أودو أراد أن يشغل المسلمين من ناحية الغنائم لعل ذلك يخل بنظامهم أثناء القتال، ولذلك قام بحركة الالتفاف السريعة بمهاجمة مؤخرة الجيش الإسلامي فتراجعت بعض القوات لإنقاذ الغنائم بينما استمر القتال في المقدمة وحدثت حالة من الفوضى استطاع الفرنجة من خلالها إحداث عدة ثغرات في صفوف الجند الإسلامي ووصلوا إلى القلب حيث قتل الغافقي. والواقع أن هذه صورة معاكسة على الإطلاق للروح الإسلامية التي تتحرك لنشر الإسلام وسعيا لإنقاذ أوربا من ظلم النبلاء وتحكم رجال الإقطاع وسيطرة رجال الدين وصكوك الغفران وتحكم الكنيسة وسيادة الجهل .. وليس سعيا وراء الغنائم والأموال كما روى المؤرخون الأوربيون، ولا تمت هذه الرواية لروح الإسلام التي تعمل في سبيل الجهاد وإعلان شأن الإنسان وهداية البشرية. نهاية المعركة: كان الجو العام للمعركة يشير لرجحان كفة المسلمين في بدايته لكن عندما اشتد لقتال أصيب القائد المسلم عبد الرحمن الغافقي بسهم أرداه قتيلا في ساحة المعركة وأصبح لعرب بدون قيادة مما هز من قدرة المقاتلين في الاستمرار في دحر الفرنجة وتحول القتال لصالحهم بمجرد إعلان نبأ مقتل القائد وكان ذلك السبب المباشر في انسحاب الجيش الإسلامي. وقد ترك الجيش الإسلامي معسكره كما هو بخيامه ومعداته واستطاع حمل قتلاه الذين لم يصلوا عشرة آلاف بينما الجانب الأوربي أكثر بكثير لاسيما أن الانتصار كان في البداية لصالح المسلمين. في الصباح فوجئ الفرنجة بأن العرب ليسوا أمامهم، لم يحاول شارل مارتل أن يلاحقهم خوفا من أن يكون مكيدة وخطة مدبرة ومدروسة. لم يلجأ شارل مارتل إلى مطاردة العرب كما يحصل عادة لدى مطاردة كل مهزوم أو خاسر لأن العرب لم يهزموا في هذه المعركة ولم يخسروا.. ما بعد المعركة: إن معركة بلاط الشهداء تعتبر أبعد مكان وصل إليه العرب المسلمون في فتوحاتهم في الغرب. تعتبر بلاط الشهداء من المعارك الفاصلة في التاريخ.. فلو أتيح للمسلمين الانتصار في هذه المعركة لدانت كل أوروبا بالإسلام .. كما نبهت هذه المعركة الأوربيين إلى تعاظم قوة العرب ونفوذ المسلمين في أسبانيا. بعد معركة بلاط الشهداء أعاد شارل مارتل الإغارة على المسلمين عدة مرات. لقد خمدت نيران الدعوة الإسلامية بعد معركة بلاط الشهداء، وأصبح الدافع المادي وراء التوسع وختام الدافع الروحي الذي عرفناه في نفوس كل من عقبة بن نافع .. وموسى بن نصير .. وطارق بن زياد.. وعبد الرحمن الغافقي بطل الشهداء. سميت هذه المعركة باسم بلاط الشهداء، بسبب كثرة ما سقط فيها من شهداء المسلمين فرحمهم الله رحمة واسعة.