الخليفة العثماني محمد الفاتح

مولده ونشأته: هو السلطان محمد الثاني 431هـ- 1481م يعتبر السلطان العثماني السابع في سلسلة آل عثمان يلقب بالفاتح وأبي الخيرات، حكم ما يقرب من ثلاثين عاما كانت خيرا وعزة للمسلمين، ولقد امتاز بشخصية فذة جمعت بين القوة والعدل كما أنه فاق أقرانه منذ حداثة سنه في كثير من العلوم التي كان يتلقاها في مدرسة الأمراء وخاصة معرفته كثير من اللغات في عصره وميله الشديد لدراسة كتب التاريخ مما ساعده فيما بعد على إبراز شخصيته في الإدارة وميادين القتال حتى أنه اشتهر أخيرا في التاريخ بلقب محمد الفاتح لفتح القسطنطينية. نشاة على أيد العلماء : ولقد ساهمت تربية العلماء على تنشئته على حب الإسلام والإيمان والعمل بالقرآن وسنة سيد الأنام، ولذلك نشأ على حب الالتزام بالشريعة الإسلامية واتصف بالتقى والورع ونشأ محب للعلم والعلماء ومشجعا على نشر العلوم، ويعود تدينه الرفيع للتربية الإسلامية الرشيدة التي تلقاها منذ الصغر بتوجيهات من والده وجهود الشخصيات العلمية القوية التي أشرفت على تربيته وصفاء أولئك الأساتذة الكبار وعزوفهم عن الدنيا وابتعادهم عن الغرور ومجاهدتهم لأنفسهم ممن أشرفوا على رعايته. لقد تأثر محمد الفاتح بالعلماء الربانيين منذ طفولته ومن أخصهم العالم الرباني أحمد بن إسماعيل الكوراني. برز دور الشيخ آق شمس الدين في تكوين شخصية محمد الفاتح وبث فيه منذ الصغر أمرين هما: 1-مضاعفة حركة الجهاد العثمانية. 2-الإيحاء دوما لمحمد منذ الصغر بأنه الأمير المقصود بالحديث النبوي لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش لذلك كان الفاتح يطمع أن يطبق عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور. توليه الحكم وأهم أعماله : تولى حكم الدولة العثمانية بعد وفاة والده في 16 محرم عام 855هـ الموافق 18 فبراير عام 1451م وكان عمره آنذاك 22 سنة. وأهم أعماله خلال حكمه الدولة العثمانية: أ-الأعمال الداخلية: 1-إعادة تنظيم إدارات الدولة المختلفة. 2-اهتم كثيرا بالأمور المالية فعمل على تحديد موارد الدولة وطرق الصرف منها بشكل يمنع الإسراف والتبذير والبذخ. 3-ركز على تطوير كتائب الجيش وأعاد تنظيمها ووضع سجلات خاصة بالجند. 4-عمل على تطوير غدارة الأقاليم. 5-طور البلاط السلطاني وأمدهم بالخبرات الإدارية والعسكرية الجيدة. ثانيا: أعماله الخارجية: 1-تطلع إلى المناطق المسيحية في أوربا لفتحها ونشر الإسلام فيها ولقد ساعدته عوامل عدة في تحقيق أهدافه، منها الضعف الذي وصلت إليه الإمبراطورية البيزنطية بسبب المنازعات مع الدول الأوربية الأخرى، وكذلك بسبب الخلافات الداخلية التي عمت جميع مناطقها ومدنها. 2-عمل بجد من أجل أن يتوج انتصاراته بفتح القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية والمعقل الاستراتيجي الهام للتحركات الصليبية ضد العالم الإسلامي لفترة طويلة من الزمن والتي طالما اعتزت بها الإمبراطورية البيزنطية بصورة خاصة والمسيحية بصورة عامة، وجعلها عاصمة الدولة العثمانية وتحقيق ما عجز عن تحقيقه أسلافه من قادة الجيوش الإسلامية. 3-كان محمد الفاتح يمارس الأعمال السلطانية في حياة أبيه ومنذ تلك الفترة وهو يعايش صراع الدولة البيزنطية في الظروف المختلفة كما كان على إطلاع تام بالمحاولات العثمانية السابقة لفتح القسطنطينية بل ويعلم بما سبقها من محاولات متكررة في العصور الإسلامية المختلفة وبالتالي فمنذ أن ولي السلطنة العثمانية سنة 855هـ الموافق 1451م كان يتطلع إلى فتح القسطنطينية ويفكر في فتحها. ثالثا: أعماله الحضارية: 1-اهتمامه بالمدارس والمعاهد: اهتم ببناء المدارس والمعاهد في جميع أرجاء دولته. وقد كان السلطان أورخان أول من أنشأ مدرسة نموذجية في الدولة العثمانية وسار بعده سلاطين الدولة على نهجه وانتشرت المدارس والمعاهد في بروسنة وأدرنة وغيرها من المدن. 2-أدخل بعض الإصلاحات في التعليم وأشرف على تهذيب المناهج وتطويرها وحرص على نشر المدارس والمعاهد. 3-وأنشأ بجانب المسجد الذي بناه في القسطنطينية ثمان مدارس على كل جانب من جوانب المسجد أربعة مساجد يتوسطها صحن فسيح. 4- اهتمام السلطان محمد بالعلماء : لقد كان للعلماء والأدباء مكانة خاصة لدى محمد الفاتح فقرب إليه العلماء ورفع قدرهم وشجعهم على العمل والإنتاج وبذل لهم الأموال ووسع لهم في العطايا والمنح والهدايا ليتفرغوا للعلم والتعليم وكان يكرمهم غاية الإكرام، ولو كانوا من خصومه، فبعد أن ضم إمارة القرمان إلى الدولة أمر أن ينقل العمال والصناع إلى القسطنطينية غير أن وزيره زوم محمد باشا ظلم الناس ومن بينهم بعض العلماء وأهل الفضل، ومن بينهم العالم أحمد جلبي بن السلطان أمير علي فلما علم السلطان محمد الفاتح بأمره اعتذر إليه وأعاده إلى وطنه مع رفقائه معززا مكرما. كان السلطان محمد الفاتح لا يسمع عن عالم في مكان أصابه عوز أو إملاق إلا بادر إلى مساعدته وبذل له ما يستعين به على أمور دنياه. وكان من عادة الفاتح في رمضان أن يأتي إلى قصره بعد صلاة الظهر جماعة من العلماء المتبحرين في تفسير القرآن الكريم ويناقشهم سائر العلماء في التفسير وكان الفاتح يشارك في هذه المناقشات ويشجع هؤلاء العلماء بالعطايا والهدايا والمكافآت المالية الجزيلة. 5- اهتمامه بالشعر والشعراء: كان الفاتح مهتما بالأدب عامة والشعر خاصة وكان يصاحب الشعراء ويصطفيهم واستوزر الكثير منهم مثل أحمد باشا محمود، ومحمود باشا وقاسم الجزري باشا، وهؤلاء الشعراء، وكان في بلاط الفاتح ثلاثون شاعرا يتناول كل واحد منهم راتبا شهريا قدره ألف درهم، وكان طبيعيا بعد هذا الاهتمام أن يتفنن الشعراء والأدباء في مدح السلطان محمد لما قدمه إلى العلم والأدب من كريم الرعاية وجميل التشجيع. 6- اهتمامه بالترجمة: أمر بنقل كثير من الآثار المكتوبة باليونانية واللاتينية والعربية والفارسية إلى اللغة التركية من ذلك كتاب مشاهير الرجال لبلورتاك، ونقل إلى التركية كتاب: التصريف في الطب لأبي القاسم الزهراوي الطبيب الأندلسي مع زيادات في صور آلات الجراحة وأوضاع المرضى أثناء إجراء العمليات الجراحية. 7- اهتمامه بالعمران والبناء والمستشفيات: كان السلطان محمد الفاتح مغرما ببناء المساجد والمعاهد والقصور والمستشفيات والخانات والحمامات والأسواق الكبيرة والحدائق العامة وأدخل المياه إلى المدينة بواسطة قناطر خاصة وشجع الوزراء وكبار رجال الدولة والأغنياء والأعيان على التشييد للمباني وإنشاء الدكاكين والحمامات وغيرها من المباني. 8- الاهتمام بالتجارة والصناعة: اهتم السلطان محمد الفاتح بالتجارة والصناعة وعمل على إنعاشها بجميع الوسائل والعوامل والأسباب وكان بذلك مقتفيا خط آبائه وأجداده السلاطين. 9- الاهتمام بالتنظيمات الإدارية: شكل السلطان محمد لجنة من خيار العلماء لتشرف على وضع (قانون نامة) المستمد من الشريعة الغراء وجعله أساسا لحكم دولته. اهتم محمد الفاتح بوضع قوانين تنظم علاقة السكان من غير المسلمين بالدولة ومع جيرانهم من المسلمين ومع الدولة التي تحكمهم وترعاهم وأشاع العدل بين الرعية. قام بحركة تطهير واسعة لكل الموظفين القدماء غير الأكفاء وجعل مكانهم الأكفاء واتخذ الكفاية وحدها أساسا في اختيار رجاله ومعاونيه وولاته. 10- اهتمامه بالجيش والبحرية: اهتم السلطان محمد بالجيش النظامي وقام بإنشاءات عسكرية عديدة ومتنوعة فأقام دور الصناعة العسكرية لسد احتياجات الجيش من الملابس والسروج والدروع ومصانع الذخيرة والأسلحة وأقام القلاع والحصون في المواقع ذات الأهمية العسكرية، وكانت هناك تشكيلات عسكرية متنوعة في تمام الدقة وحسن التنظيم من فرسان ومشاة مدفعية وفرق مساعدة. حرص السلطان محمد على تطوير الجيش البري والقوة البحرية وظهرت أهميتها منذ فتح القسطنطينية حيث كان للأسطول البحري العثماني دور واضح في إحكام حصارها وتطويقها من البحر والبر جميعا. كان الأسطول العثماني تشرف الترسانة على إدارته وكانت أحد الفروع الخاصة وتسمى بطاقة العزب ويبلغ عددهم نحو ثلاثة آلاف جندي بحري تتألف من: القبطان وقواد السفن والضباط والبحارة. 11- اهتمامه بالعدل: كان شديد الحرص على إجراء العدالة في أجزاء دولته ولكي يتأكد من هذا الأمر كان يرسل بين الحين والحين إلى بعض رجال الدين من النصارى بالتجوال والتطواف في أنحاء الدولة ويمنحهم مرسوم مكتوب يبين مهمتهم وسلطتهم المطلقة في التنقيب والتحري والاستقصاء لكي يطلعوا كيف تساس أمور الدولة وكيف يجري ميزان العدل بين الناس في المحاكم، وقد أعطى هؤلاء المبعوثون الحرية الكاملة في النقد وتسجيل ما يرون ثم يرفعون ذلك كله إلى السلطان. اعتنى الفاتح بوجه خاص برجال القضاء الذين يتولون الحكم والفصل في أمور الناس فلا يكفي في هؤلاء أن يكونوا من المتضلعين في الفقه والحديث والشريعة والاتصاف بالنزاهة والاستقامة وحسب بل لابد إلى جانب ذلك أن يكونوا موضع محبة وتقدير بين الناس وأن تتكفل الدولة بحوائجهم. أهم صفات محمد الفاتح: 1-الحزم: وظهر ذلك عندما غلب ظنه أن هناك تقصيرا أو تخاذلا وتكاسلا من جانب قائد الأسطول العثماني بالطة أوغلي عند حصاره القسطنطينية فأرسل إليه وقال: (إما أن تستولي على هذه السفن وإما أن تغرقها وإذا لم توفق في ذلك فلا ترجع إلينا حيا) ولما لم يحقق بالطة أوغلي عزله وجعل مكانه حمزة باشا. 2-الشجاعة: كان رحمه الله يخوض المعارك بنفسه ويقاتل الأعداء بسيفه وفي إحدى المعارك في بلاد البلقان تعرض الجيش العثماني لكمين من قبل زعيم اليوغدان استفان، حيث تخفى مع جيشه خلف الأشجار الكثيفة المتلاحقة وبينما المسلمون بجانب تلك الأشجار انهمرت عليهم نيران المدافع الشديدة من بين الأشجار وانبطح الجنود على وجوههم وكاد الاضطراب يسود صفوف الجيش لولا أن سارع السلطان الفاتح وتباعد عن مرمى المدافع وعنف رئيس الانكشارية الطرابزوني على تخاذل جنوده ثم صاح فيهم (أيها الغزاة المجاهدون كونوا جند الله ولتكن الحمية الإسلامية) وأمسك بالترس واستل سيفه وركض بحصانه واندفع به إلى الأمام لا يلوي على شيء وألهب نار الحماس فانتصر المسلمين وغنموا غنائم وفيرة. 3-الذكاء: ويظهر ذلك في فكرته البارعة في نقل السفن من مرساها بشكطاش إلى القرن الذهبي وذلك بجرها على الطريق البري الواقع بين الميناءين مبتعدا حبي غلطة خوفا على سفنه من الجنوبيين. 4-العزيمة والإصرار: فعندما أرسل السلطان محمد الفاتح إلى الإمبراطور قسطنطين يطلب منه تسليم القسطنطينية حتى يحقن دماء الناس في المدينة ولا يتعرضوا لأي أذى ويكونوا بالخيار في البقاء في المدينة أو الرحيل عنها، فعندما رفض قسطنطين تسليم المدينة قال السلطان محمد: (حسنا قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر). 5-عدله: حيث عامل أهل الكتاب وفق الشريعة الإسلامية وأعطاهم حقوقهم الدينية ولم يتعرض أحد من النصارى للظلم أو التعدي بل أكرم زعمائهم وأحسن إلى رؤسائهم وكان شعاره: العدل أساس الملك. 6-عدم الاعتزاز بقوة النفس وكثرة الجند وسعة السلطان: تجد السلطان محمد عند دخول القسطنطينية يقول: (حمدا لله، ليرحم الله الشهداء، ويمنح المجاهدين الشرف والمجد ولشعبي الفخر والشكر). 7-الإخلاص: إن كثير من المواقف التي سجلت في تاريخ الفاتح تدلنا على عمق إخلاصه لدينه وعقيدته في أشعاره ومناجاته لربه سبحانه وتعالى حيث يقول: نيتي: امتثالي لأمر الله وجهادي في سبيل الله. وحماسي: بذل الجهد لخدمة ديني (دين الله). عزمي: أن أقهر أهل الكفر جميعا بجنودي: جند الله. وتفكيري: منصب على الفتح على النصر على الفوز بلطف الله. جهادي: بالنفس والمال فماذا في الدنيا بعد الامتثال لأمر الله. وأشواقي: الغزو والغزو مئات الآلاف من المرات لوجه الله. رجائي: في نصر الله، وسمو الدولة على أعداء الله. 8-علمه: اهتم والده به منذ طفولته ولذلك خضع السلطان محمد الفاتح لنظام تربوي أشرف عليه مجموعة من علماء عصره المعروفين فتعلم القرآن الكريم والحديث والفقه والعلوم العصرية ولقد تبحر السلطان محمد في اللغات الإسلامية الثلاثة التي لم يكن ليستغني عنها شغف في ذلك العصر وهي: العربية والفارسية والتركية، ولقد كان السلطان محمد الفاتح شاعرا وترك ديوانا باللغة التركية. وفاة السلطان محمد الفاتح وأثرها على الغرب والشرق: في شهر ربيع من عام 886هـ- 1481م غادر السلطان محمد الفاتح القسطنطينية إلى آسيا الصغرى حيث كان قد أعد في اسكدار جيش آخر كبير، وكان السلطان محمد الفاتح قبل خروجه من استنبول قد أصابته وعكة صحية إلا أنه لم يهتم بذلك لشدة حبه للجهاد وشوقه الدائم للغزو وخرج بقيادة جيشه بنفسه، وقد كان من عادته أن يجد في خوض غمار المعارك شفاء لما يلم به من أمراض إلا أن المرض تضاعف عليه هذه المرة وثقلت وطأته بعد وصوله إلى اسكدار فطلب أطباؤه، غير أن القضاء حم به فلن ينفع فيه تطبيب ولا دواء ومات السلطان الفاتح وسط جيشه العرمرم يوم الخميس الرابع من ربيع الأول 886هـ 3 مايو 1481م وهو في الثانية والخمسين من عمره بعد أن حكم نيفا وثلاثين عاما. وبعد أن ذاع نبأ الوفاة في الشرق والغرب أحدث دويا هائلا اهتزت له النصرانية والإسلام. أما النصرانية فقد غمرها الفرح والابتهاج والبشرى وأقام النصارى في رودس صلوات الشكر على نجاتهم من هذا العدو المخيف وكان جيوش الدولة العثمانية قد وصلت إلى جنوب إيطاليا لفتح كل إيطاليا وضمها للدولة العثمانية إلا أن خبر الوفاة وصلهم فانتاب الجنود هم شديد وحزن عميق واضطر العثمانيون إلى الدخول في مفاوضات مع ملك نابولي، آمنين على حياتهم وأمتعتهم وعتادهم وتم الاتفاق على ذلك إلا أن النصارى لم يفوا بما تعهدوا واعتقلوا بعض الجنود الذين كانوا في المؤخرة وصفدوهم بالحديد. وعندما وصل خبر وفاة السلطان إلى روما ابتهج البابا وأمر بفتح الكنائس وأقيمت الصلوات فيها والاحتفالات وسارت المواكب العامة تجوب الشوارع والطرقات وهي تنشد أناشيد النصر والفرح بين طلقات المدافع، وظلت هذه الاحتفالات والمهرجانات قائمة في روما طيلة ثلاثة أيام، لقد تخلصت النصرانية بوفاة محمد الفاتح من أعظم خطر كان يهددها.