محمد بن القاسم الثقفي

نشأته: لم تشغف نفسه بلهو الطفولة ومراح الصبا ومتع الشباب وإنما شغف بخوض المعارك واقتحام المخاطر ودخول المغامرات. على الرغم من أنه نشأ في أحضان الترف وترعرع في أفياء النعيم إذ كان والده واليا على البصرة يتقاضى راتب الولاة، وكان هو قائدا في شبابه يتقاضى مكافأة القواد. فلولا إيمانه العميق بأنه خلق لحياة أسمى من الحياة الناعمة المترفة لما ألح على الحجاج أن ينتظم في سلك الجندية ليشترك في قتال الخوارج وقد اشترك فيها بالفعل وهو صبي ناعم العود غض الإهاب. كفايته الحربية: أما كفايته الحربية في ميادين القتال .. في ساحات الجهاد .. فقد كانت فوق ما تتمثل العبقرية الخلاقة من صور البطولة والإقدام فماذا فعل محمد بن القاسم في أثناء اقتحام مدينة الديبل التي كانت وراء جدر محصنة فضلا على أنهم قساة القلوب متمرسون بالجريمة، فقد أعلن عليها حربا نفسية إذ هاجمها أولا بأخطر المعدات الحربية وكانت تتمثل في المنجنيق الضخمة التي هدم بها الصنم الكبير فيها ومن ثم هبطت الروح المعنوية عند سكان المدينة فحاربوا المسلمين بنفوس يائسة فكان استسلامهم ضرورة حتمية تفرضها ظروف القتال، ولكن ما لبث التاريخ أن دون بين صفحاته لابن القاسم أروع ما كتب للأبطال الفاتحين. ابن القاسم قائدا: فتح السند: ما أروع اللحظة التي تقرر فيها تعيين ابن القاسم قائدا للجيش لفتح بلاد السند فما أن انصرف مجلس الحجاج إلا من ابن القاسم انطلق إلى بيوت عدد من المقاتلين ليسألهم عن طبيعة هذه المدينة وأسلوب أهلها في القتال فكان مما أخبروه أن هناك صنما ضخما يقوم على خدمته عدد كبير من الكهنة، وتحت القاعدة التي نصب عليها الصنم سراديب يختفي فيها أهل المدينة إذا حوصروا في أثناء القتال، ثم يخرجون منها لطعن المقاتلين من الخلف إذا دخلوا المدينة، وفوق الصنم سارية مرتفعة عليها راية حمراء واسعة إذا لفحتها الريح رأتها المدينة كلها وهم يركبون الفيلة أثناء القتال حتى يخيفوا خيل مقاتليهم. بات ابن القاسم ليلته يفكر في وسيلة ليهدم بها هذا الصنم الكبير حتى يحقق أول خطوة في طريق النصر ففكر في أن يصنع منجنيقا ضخما يهوي كالصاعقة على هذا الصنم، وتم عرض الفكرة على الحجاج فوافق وأمر أمهر الصناع بصناعة هذا الحجر الضخم وبالفعل تم صنعه وأطلق عليه الحجاج اسم العروس لدقة صنعه وإتقانه. وفي الليلة المحدد صباحها لرحيل الجيش اجتمع الحجاج بابن القاسم ليزوده بآخر التعليمات، فبدأ الحجاج حديثه باستعراض مواقف المسلمين فذكر له ما كان من عثمان بن عفان حينما أراد فتحها وأن المسلمين فشلوا في ذلك، وبدا يعدد له الفشل الذي يحدث وأسبابه حتى تكون له الخيرة في فتحها ويعلم أنها مهمة شاقة هو مقدم عليها، ثم قام بتشجيعه حيث قال له: إني أرى فيك أسامة جديد وأريد منك أن تعيد إلى الأذهان بأفعالك وبطولاتك ذكرى هذا القائد المظفر الذي قاتل الروم وانتصر عليهم. تحرك الجيش بقيادة ابن القاسم عندما سطعت شمس صباح اليوم التالي تحرك الأسطول بالمعدات والمؤن وبعض الكتائب، وفي نفس الوقت تحرك ابن القاسم بباقي الجيش عبر الصحراء وكان ذلك في العام التاسع والثمانين بعد الهجرة. لم يكن الأمر سهلا فقد كان هناك ثلاث مدن لابد أن يمر بها الجيش قبل السند هي: مكران، وقنزبور، وأرمائيل، وكان على ابن القاسم أن يستخدم القوة ضد أي مدينة منها تحاول اعتراض طريقه فعندما مر بمدينتي مكران وقنزبور لم يلق منهما إلا الاستسلام أما أرمائيل فإنها حاولت أن تقف في وجه الجيش العربي فما لبث ابن القاسم أن هاجمها وكانت هزيمتها أول انتصار على أرض السند. استأنف ابن القاسم سيره حتى لاحت مشارف الديبل فلاح وجهه استبشارا وفرحا ثم خندق بالجيش استعدادا للهجوم وقبل أن تتحرك الخيل براكبيها جنح ابن القاسم إلى الأسطول الراسي وأمر خمسمائة رجل منهم بتثبيت المنجنيق بالقرب من قاعدة الصنم حتى يكون قذفه للحجارة محكما وتم تثبيته وفي اللحظة التي أمرهم فيها ابن القاسم بتحريك الحجر فقاموا لرفعه إلى أعلى فنزل على رأس الصنم فحطمه تحطيما فقام أهل القرية مدهوشين من الصوت، وقام الكهنة مذعورين من الصدمة، وتمت الصدمة لهم عندما رأوا صنمهم الذي يتبركون به، وقام كل واحد منهم بلبس عدة القتال واستعدوا له ورأوا أنهم يبقون في المدينة حتى يهاجمهم المسلمين داخل المدينة وبالفعل دخل المسلمين المدينة بعد أن صعد منهم فارس شجاع على الصنم وفتح الباب وبدأت الحرب التي ظلت ثلاثة أيام حتى أصبح عدد القراصنة بالقتلى بالآلاف وكأنهم أغرقوا في بحر المنايا. وأخيرا لم يجدوا بد من التسليم وكان ذلك في سنة تسع وثمانين هجرية. أعمال ابن القاسم بعد الفتح: 1-أطلق سراح النساء المسلمات وخصص سفينة من سفن الأسطول لنقلهم إلى العراق. 2-أمر ببناء مسجد في مدينة الديبل وكان أول مسجد يقام يف السند. 3-خصص للمعوزين والفقراء ما يكفيهم من المؤن. 4-رفع الضرائب عن صغار التجار وذوي الدخول الضئيلة. 5-هيأ لكل متعطل عملا يرتزق منه. 6-علم الجميع أن الناس سواسية في الحقوق والواجبات. وفاة الحجاج وفتح الكيرج : أثناء إدارة شئون السند على أساس تعاليم الإسلام إذا بنبأ يأتيه من العراق بوفاة الحجاج وكان ذلك في العام الخامس والتسعين بعد الهجرة، حاول ابن القاسم في هذه اللحظة حبس عبراته ولكن فجيعته في الحجاج كانت أكبر من أن تحبس فيها الدموع.. ولما جفت عبراته وخفت نشيجه كانت أمامه مدينة واحدة اسمها الكيرج وعليه أن يفتح هذه المدينة حتى لا يبقى في السند كلها مكان لم يدخله المسلمون. استعد ابن القاسم لمهاجمة الكيرج واستعدت هي أيضا بالقتال بملكها دوهر ودقت طبول الحرب وتقدم الملك الصفوف بفيله الضخم. وبينا المعركة حامية الوطيس والخيل العربية تقتحم الصفوف إذ تقابل ابن القاسم مع الملك دوهر وما لبث دقيقة حتى انقض عليه ابن القاسم فأرداه قتيلا ثم كبر وكبر معه المسلمون فمزقوهم شر ممزق. أفعال ابن القاسم في الكيرج: 1-أمر ببناء مسجد تمارس فيه الشعائر الإسلامية. 2-حرر العبيد الذين كانوا يعملون في قصور الأمراء. 3-رفع رواتب الأجراء. 4-خصص جانبا من الثروة التي خلفها الملك للفقراء والمساكين. 5-إقامة مائدة كل يوم لمن شاء أن يتناول الطعام. من أجل الوحدة الإسلامية: عزل محمد بن القاسم من ولاية السند عندما جلس سليمان على كرسي الخلافة: وذلك أنه كان جالسا في مقر الحكم فدخل عليه يزيد بن أبي كبشة وبرفقته معاوية بن المهلب ومجموعة من الجنود الأشداء وقرأ عليه القرار الذي أصدره الخليفة فكان موقفه أن وقف رابط الجأش هادئ الأعصاب ثم قال لهم في ثقة واعتداد: إنني أرحب بقرار الخليفة وإن كانت لا تمليه مصلحة الدولة وإنما تمليه نزوات الحاقدين والساخطين والطامعين.. شد وثاقه إلى العراق وهاج أهل السند حزنا على من شاع فيهم روح الإسلام والمحبة والحياة الإيمانية ثم ألقي بعد ذلك في سجن مظلم ليمضي الأيام الباقية من حياته. استشهاد المجاهد: قام صالح بن عبد الرحمن وهو الموكل بمتابعة محمد بن القاسم والتحقيق معه بالسؤال عن ماضي بن القاسم لكي يجد شيئا أخطأ فيه ولم يجد جوابا شافيا لما يريد حتى عثر على فتاة هي ابنة الملك ذاهر ملك السند وطلب منها أن تدعي أن محمد بن القاسم قد خلا بها يوما وفعلا دبر هذه المكيدة مع كون رفض الفتاة هذا. وبالفعل تم الحكم عليه بالإعدام وأهوى السياف بسيفه على رقبته ففصلها عن جسده وسقط فاتح السند على الأرض شهيدا لتصعد روحه الطاهرة إلى نزل الأبرار والصديقين.