القعقاع بن عمرو التميمي
إسلام القعقاع بن عمرو: في السنة التاسعة من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد غزوة تبوك توافدت القبائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشر بن أبي سفيان رضي الله عنه عاملا على صدقات بني كعب وهم من قبيلة خزاعة، فكان أن صادف ذلك مجيء بني عمرو بن تميم بالقرب منهم فجمعت خزاعة مواشيها للصدقة فاستنكر ذلك بنو تميم وأبو وشهروا سيوفهم في وجه الخزاعيين يمنعونهم عن أداء الصدقات لله ورسوله.. فانتدب لهم عيينة بن بدر الفزاري رضي الله عنه فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في خمسين فارسا من العرب فأغار عليهم واستطاع أن يأسر أحد عشر رجلا ونساءهم، وعاد بهم إلى المدينة مع صبيانهم فكان فيهم عدد من رؤساء بني تميم.. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد فخرج إليهم وجلس وهم أمامه فخطب خطيبهم وهو عطارد بن حاجب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس: اجبه يا ثابت: فوقف ثابت خطيبا وأجابه.. وقد نزل في وفد بني تميم عندما نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسجده قول الله عز وجل في سورة الحجرات: إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ? ولو انهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم. وكانت بداية إسلام بني تميم قوم القعقاع بن عمرو التميمي في السنة التاسعة للهجرة بعد غزوة تبوك، وكان القعقاع في وفد قومه آنذاك، فأسلم معهم. وقد أخلص بنو تميم لدينهم، وأحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنه حين نعى لهم راكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعوا لوفاته وقالوا: بأبينا وأمنا رسول الله. الشجاعة الباهرة: كان القعقاع جنديا شجاعا، يقدم على الجهاد دون تردد وانتقل من الجندية إلى القيادة، فعرف حكمة القائد وحزمه، لا يتردد في قرار أبدا. وقد أجمع المسلمون على أن الجيش الذي فيه القعقاع لا يهزم أبدا، وقد زكاه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه عندما قال عنه: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل. لم يجمع مالا من غزو ولا دابة، وغنما عاش حياته على الكفاف، على الرغم من مصادر المال التي توافرت له في فتوحاته وغنائمه. مشاركته في حروب الردة :- كانت المهمة الأولى التي كلفه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، بها هي قتال مرتد ظالم لنفسه من بني كلب، وهذا المرتد هو علقمة بن علاثة الكلبي.. خرج القعقاع مصطحبا جنوده المسلمين، ولما وصل إلى بني كلب فر علقمة في جنح الظلام على فرسه، ولما دخل المسلمون على امرأته وأبنائه أعلنوا إسلامهم وأنكروا ردة أبيهم.. وما إن وصل القعقاع ورجاله المدينة حتى جاء علقمة إلى أبي بكر تائبا، فقبلت توبته لأن الإسلام يجب ما قبله، وانضم علقمة إلى القافلة بعد أن ضل الطريق. ذات السلاسل: وجاء يوم الخيل ذات السلاسل التي كانت في المحرم سنة 12 من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم حيث وصل الكتاب من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، إلى خالد يأمره بالتوجه إلى الشام، وما إن وصل إلا وقد طلب خالد المدد من أبي بكر فاختار القعقاع بن عمرو لهذه المهمة الجليلة. وكان على الجانب الآخر جانب العدو، وفي منطقة الأبلة يقف هرمز أمير هذه المنطقة من قبل فارس.. وقال خالد لجنده لما وجد الفرس قد استولوا على الماء: ألا انزلوا وحطوا أثقالكم، ثم جالدوهم على الماء، فلعمري ليصيرن الماء لأصبر الفريقين، وأكرم الجندين. فحطت الأثقال والخيل وقوف، ثم زحف خالد لملاقاتهم ودار قتال عنيف شارك فيه القعقاع بن عمرو رضي الله عنه تحت قيادة خالد وشقيقه عاصم بن عمرو رضي الله عنهما. خرج هرمز مناديا خالد إلى النزال، فمشى خالد إليه، وكان لقاء بطوليا عظيما باشر فيه القائد بنفسه صراعه مع خصمه، ولك يخرج جنديا غيره. وقف القعقاع وقد توقدت عيناه وقريحته الفياضة يرقب هذا الصراع، ويهلل كلما وجه خالد ضربة لخصمه، حتى اختلفا ضربتين واحتضن خالد هرمز وفجأة خرج عدد من جنود الفرس يريدون الغدر بخالد بن الوليد رضي الله عنه. عند هذه اللحظة، أخذ القعقاع رضي الله عنه، بعنان فرسه، وانطلق يسابق الريح حتى تجاوز المضمار، وضرب يمينا وشمالا في وجوه الذين أرادوا بخالد شرا، حتى تراجعوا وتساقطوا وأمن خالد شر مكرهم. اليرموك: وفي اليرموك قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعدما سمع بمكر الروم: والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد. وكتب إليه كتابا وقد كان خالد في الحيرة مركز قيادته، أمره فيها أن يمضي للقاء الروم، وأرسل له مددا كبيرا، وكان مع خالد القعقاع بن عمرو رضي الله عنهما. تحرك خالد بنصف جيشه في العراق وترك النصف الآخر للمثنى، ومضى ومعه القعقاع بن عمرو، يستعين به في المهام الشاقة، والتحقت القوات بقوات المسلمين في الشام. وقف خالد بعد أن أصبح أميرا على كل الجيوش الإسلامية التي التحقت به وقد بلغ قوامها ستا وثلاثين أو أربعين فرقة، وجعل خالد على ميمنته عمرو بن العاص، وعلى ميسرته يزيد بن أبي سفيان، بينما كان قلب الجيش بقيادة أبي عبيدة أمين الأمة وعلى مجنبتي القلب عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو، رضي الله عنهما. أمر خالد أن يبدأ القتال من مجنبتي القلب، وكانت البداية والتحم الجيشان في قتال لا ينساه التاريخ، تلألأ فيه القعقاع وسيفه المبارك ليضرب قوى الشر والكفر. فوق سور دمشق: انتهت اليرموك وجاءت أنباء تقول: إن قوات جديدة من الروم دخلت دمشق لتحميها وتمنع عنها المسلمين. علم أبو عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه، بذلك فسار إلى دمشق والقعقاع جندي من جنوده ومعهما خالد رضي الله عنهم، ولما وصلت جيوش المسلمين وفرقهم إلى دمشق ضربوا حصارا قويا حولها استمر سبعين يوما دون جدوى، لذلك قرر الجنديان خالد والقعقاع بن عمرو، رضي الله عنهما، تسلق السور المرتفع لمدينة دمشق ولما دخل الظلام تسلق القعقاع وصاحبه أحصن مكان في حصن دمشق وصعد المسلمون خلفهم ثم هاجم خالد وجنوده، ومعه القعقاع، حماة الحصن من أعلى، فقتلوهم، وفتحوا الأبواب وصرخوا: الله أكبر .. الله أكبر، فانهارت كل مقاومة في المدينة، ودخل المسلمون دمشق بعد حصار طويل. في معركة القادسية: استمرت معركة القادسية أربعة أيام.. ولما بدأ النزال بين الفرس والمسلمين في القادسية وذلك في اليوم الثاني، وبلغ عمر رضي الله عنه ما بلغه من استعدادات هائلة للفرس عددا وعدة. لذلك فقد أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح بعد فتح دمشق أن يرد الجند الذين جاءوا من العراق إلى الشام مع خالد بن الوليد. قال عمر في رسالته لأبي عبيدة: اصرف جند العراق إلى العراق، وأمرهم بالحث إلى سعد بن أبي وقاص. فكان وصولهم إلى جيش المسلمين، في اليوم الثاني من أيام القادسية وهو يوم أغواث قبل بدء القتال من جديد، وكانوا ستة آلاف، منهم خمسة آلاف من ربيعة ومضر، وألف من اليمن. أمر أبو عبيدة على هذا الجيش هاشم بن عتبة بن ابي وقاصن وجعل بطلنا القعقاع بن عمرو على مقدمة هذا الجيش وعلى مجنبتيه قيس بن هبيرة والهزهاز بن عمرو العجلي. فكر القعقاع القائد في خطة رائعة يوقع الرعب من خلالها في قلوب الفرس، فقد عهد إلى أصحابه أن يتقطعوا أعشارا، فقسموا أنفسهم أقساما، كل قسم عشرة رجال، فكلما بلغوا عشرة سرحوا في آثارهم عشرة، وقدم القعقاع في العشرة الأولى. فلما أتى القعقاع الناس سلم عليهم وبشرهم بالجنة ثم قال: يا أيها الناس إني قد جئتكم في قوم، والله إن لو كانوا بمكانكم، ثم أحسوكم حسدوكم حظوتها، وحاولوا أن يطيروا بها دونكم، فاصنعوا كما أصنع. القعقاع يطلب المبارزة: تقدم القعقاع الفارس، ونادى بأعلى صوته: من يبارز؟ فبرز إليه رجل من الفرس، تبدو عليه الفروسية والقتال، قال القعقاع لخصمه في صوت حاسم حازم: من أنت؟ فقال: أنا بهمن جاذويه. فنادى القعقاع بن عمرو قائلا: يا لثارات أبي عبيدة وسليط وأصحاب يوم الجسر. اجتلد الرجلان، وكانت ضربة هائلة من القعقاع قضت على بهمن جاذويه جعلت خيل القعقاع ترد قطعا وجماعات، ومازالت ترد إلى الليل، مما أثار في الناس اطمئنانا شديدا، وحفزهم على النشاط والإصرار على النصر فتنشط الناس، وكأن لم يكن بالأمس مصيبة. هدأ القعقاع بعد يوم عظيم حمل فيه ثلاثين حملة كلما طلعت جماعة من جماعاته حمل معهم فيها فقتل وحده يومها من الفرس ثلاثين رجلا، وبات ليلته يستعد للغد القريب. لم يتوقف القعقاع بن عمرو في اليوم الثالث وحتى اليوم الرابع بل اخذ يشحن الهمم ويرفع معنويات جيش المسلمين ما استطاع في ذلك سبيلا. المدائن: قال سعد بن أبي وقاص مخاطبا رجاله، طالبا منهم تأمين قواته وحمايتهم في أثناء عبوره النهر إلى المدائن قال: من يبدأ ويحمي لنا الفراض حتى تتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم من الخروج!. جاء صوت فارس من بعيد يقول: أنا أيها الأمير.. إنه صوت عاصم بن عمرو .. أمر سعد بن أبي وقاص عاصم بن عمرو قيادة كتيبة الأهوال وأمر القعقاع على الكتيبة الخرساء، لصمت رجالها الكثير وفعلهم الكبير، ومضت كتيبة الأهوال فعبرت النهر وصنعت رأس جسر على الجانب الآخر، وحمت عبور الجيش الإسلامي البطل .. ومضت كتيبة القعقاع في اقتحام الأهوال.. ويمضي القعقاع مسرعا على رأس كتيبته، وحسبي أنه تبسم قليلا عندما دخل عاصم المدائن قبله، إلا أنه سعد بالقائد سعد وهو يصول ويجول في القصر الأبيض قصر كسرى بعد فتح المدائن. جلولاء: في اثنا عشر ألفا من الرجال تقدم القعقاع إلى جلولاء وهي بلدة في طريق خراسان، تقع على بعد أربعين ميلا شمال المدائن. حاصر القعقاع جلولاء، وتحصن أهل فارس بالمدينة وجعلوا لا يخرجون إليهم إلا إذا أرادوا، فوقف هاشم يحث المسلمين على القتال ويقول: أبلوا في الله بلاء حسنا يتم لكم عليه الأجر والمغنم، واعملوا لله. سمع القعقاع كلمات قائده، فاندفع واندفع الناس معه واقتتلوا مع الفرس قتالا شديدان ومضى القعقاع إلى باب الخندق فدخله وسيطر على جزء منه وصاح مناديا: يا معشر المسلمين: هذا أميركم قد دخل خندق القوم، وأخذ به فأقبلوا إليه ولا يمنعنكم من بينكم وبينه من دخوله. ظن المسلمون أن هاشما بالخندق فاندجفعوا إليه فإذا بالقعقاع قد سبقهم فطاولوا الفرس وطالوهم، وقاتلوهم فانهزم منهم من انهزم فطاردهم القعقاع إلى داخل بلادهم فتساقطت أمامه الحصون في خانقين، وقصر شيرين، وحلوان، وكلها مدن وقرى فارسية، واستقر القعقاع في النهاية بحلوان. نهاوند وقيادة الخيل: اختار النعمان بن مقرن المزني القعقاع بن عمرو، وكان على الخيل وذلك لينشب القتال بين المسلمين والفرس واستثارتهم وجرهم إلى القتال، وعندما اندفع الفرس نكص أمامهم وتراجع، وطاردوهم .. ثم قال الناس للنعمان لما تأخر عليهم في أمر القتال: ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما لقي الناس؟ فما تنتظر بهم، ائذن للناس في قتالهم. وتمهل النعمان حتى تململ المسلمون وقال أحدهم: لم أر كاليوم فشلا، وبعد وقت ليس بالقليل كبر النعمان، وحمل على الفرس والناس معه فدار قتال شديد استمر وقتا طويلا حتى فتح الله على المسلمين. وفي هذا اليوم فر الفيرزان قائد الفرس فتعقبه القعقاع ومعه نعيم بن مقرن المزني، فأدرك القعقاع الفيرزان وقد بدأ يصعد جبلا فصعد خلفه حتى أدركه فقتله ومضى جيش المسلمين حتى فتح همذان. وفاة البطل القعقاع بن عمرو: وفي الكوفة عاش القعقاع أيامه الأخيرة، وبعد حياة حافلة بالجهاد، فياضة بالبطولة والغيرة على دين الله عز وجل، انتهت حياة قائد من قادة الإسلام، ومضت رحلة حياة طويلة حمل فيها أحد قادة النبي صلى الله عليه وسلم سيفه في سبيل نشر كلمة الحق، والقضاء على الشر والباطل على وجه الأرض. رضي الله عن القعقاع القائد، البطل، رجل المهمات، والمدد في عسرة المسلمين.