الخليفة العباسي (هارون الرشيد )

نسبه ومولده : هو أبو جعفر هارون بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما. ولد بالري، حين كان أبوه أميرا عليها وعلى خرسان، وذلك في سنة ثمان وأربعين ومائة، وأمه أم ولد تسمى الخيزران وهي أم الهادي. نشأته: لسنا نعرف إلا القليل عن نشأة الرشيد الأولى التي كانت في الري وأوضح ما فيها أن هارون نشأ مع أولاد يحيى بن خالد البرمكي الذي كان على ديوان المهدي هناك وهما الفضل وجعفر كما رضع من أمهاتهما. وحين عاد مع أبيه وأمه إلى بغداد منذ سنة 151هـ اختير لتربيته كبار العلماء كالشأن في غيره. وأول ظهور لهارون الرشيد كان في سنة 163هـ وهو في قرابة الثامنة عشر وذلك عندما عينه والده الخليفة المهدي قائدا للجيش الذي وجهه للجهاد ضد الروم، وكان المهدي قد بالغ في الحشد لهذه الحملة حتى زادت على تسعين ألف مقاتل كما بالغ في الإنفاق على تجهيزها وإعدادها، وقد كان لقيادة هذا الجيش دور في إكساب هارون خبرة في القيادة العسكرية وخبرة في قيادة الناس وتولية أمورهم . وبعد عودته من تلك الغزوة قام المهدي بتزويجه ابنة عمه زبيدة ثم عاود وأرسله قائدا لجيش المسلمين لغزو الروم وكان قوامه مائة ألف مقاتل وكان ذلك إثر هزيمة هزمها هناك أحد قواد الدولة وهو (عبد الكريم بن عبد الحميد) وقد أرسل معه أكبر قواد الدولة وهو يزيد بن مزيد الشيباني، وقد كتب له النصر في هذه الغزوة فلقبه أبوه بعد عودته بالرشيد، وعقد له بولاية العهد بعد أخيه موسى سنة 166هـ. صفاته وأخلاقه: كان هارون الرشيد أبيض طويلا جميلا مليحا فصيحا، له نظر في العلم والأدب، وكان يصلي في خلافته كل يوم مائة ركعة إلى أن مات لا يتركها إلا لعلة، ويتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم وكان يحب العلم وأهله ويعظم حرمات الإسلام ويبغض المراء في الدين والكلام في معارضة النص، وبلغه عن بشر المريسي القول بخلق القرآن فقال: لئن ظفرت به لأضربن عنقه، وكان يبكي على نفسه وعلى إسرافه وذنوبه لاسيما إذا وعظ، وكان يحب المديح ويجيز عليه الأموال الجزيلة وله شعر، ودخل عليه مرة ابن السماك الواعظ فبالغ في احترامه فقال له ابن السماك: تواضعك في شرفك أشرف من شرفك ثم وعظه فأبكاه وكان يأتي بنفسه إلى بيت الفضيل بن عياض، وكان الرشيد من أفاضل الخلفاء العباسيين وفصحائهم وكرمائهم، يحج سنة ويغزو سنة، وكان شجاعا، وقد أحب الشعر والشعراء ومال إلى الأدب والفقه وكان واسع العطاء كثير السخاء. توليه الخلافة : كان والده المهدي قد بايع له بالخلافة بعد أخيه موسى الهادي فلما توفي المهدي وتولى الهادي الخلافة ظهرت بينه وبين ا لرشيد جفوة وقد حاول الرشيد تجنبها قد الإمكان حتى لا يقع بينه وبين أخيه صدام ولم يدم هذا طويلا حيث توفي الهادي فجأة فتولى الخلافة هارون الرشيج وبايعه القواد والأشراف وعامة الناس وتمت له الأمور وكان عمره أربعا وعشرين سنة. أهم الأسس في سياسة الخليفة هارون الرشيد العامة: كان الرشيد رحمه الله كما يذكر الطبري يقتفي آثار المنصور إلا في بذل المال فإنه لم ير خليفة قبله أعطى منه للمال وقد يكون ذلك صحيحا في بعض نواحي السياسة وفي بعض الأحايين ولكنه خالف سياسة جده كثيرا في بعض النواحي الأخرى، وأهم الأسس في سياسته العامة: -التقيد بالدين. -عدم التدقيق في محاسبة العمال أو أمر البلاط. -التمسك بالسلطة المطلقة. -الصبر السياسي والتخطيط الهادئ. الحوادث في أيامه: إقامته للجهاد: كان الرشيد رحمه الله مقيما لعلم الجهاد معتنيا به ومما كان في عهده من الفتوحات فتح مدينة دبسة على يد الأمير عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح العباسي، وذلك في سنة ست وسبعين ومائة. وفي سنة إحدى وثمانين ومائة خرج في جيش عظيم للمسلمين وقصد الروم وقاده بنفسه فحاربهم وظفر بهم وفتح حصن الصفصاف عنوة . وقد ظل رحمه الله على ذلك حتى توفاه الله جل وعلا وهو غازيا في سبيله، وكان يغزو عاما ويحج عاما آخر . ثانيا : القضاء على الثورات والفتن: 1-خروج آل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كان من نتائج وقعة فخ التي حدثت في عهد الخليفة الهادي (شقيق الرشيد) سنة 169هـ أن أفلت كل من إدريس ويحيى ابني عبد الله بن الحسن من قبضة العباسيين وتحصنا في أماكن نائية. وقد استطاع الرشيد تتبع يحيى فأرسل جيشا أخضعه دون حرب، أما إدريس فقد خرج إلى أقصى المغرب وأسس دولة عرفت بدولة الأدارسة. وبعد وفاته استمرت أسرته تحكم ذلك الإقليم فترة من الزمن دون أن تشكل خطرا حقيقيا على الدولة العباسية. 2-فتنة الخوارج الشراة: في سنة 178 هـ خرج الوليد بن طريف التغلبي الشاري بطائفة من الخوارج في شمال الجزيرة الفراتية وعاث في الأرض فسادا وقويت شوكته فأرسل إليه الخليفة يزيد بن مزيد الشيباني بجيش من المسلمين فجرت بينهما حروب انتصر فيها يزيد الشيباني واستطاع القضاء عليهم . 3-نكبة البرامكة: البرامكة أسرة فارسية الأصل، تنسب إلى خالد بن برمك الذي تولى عدة مناصب قيادية هامة في الدولة العباسية، وقد برز نجم البرامكة من خلال علاقتهم بالرشيد حيث تبوأ يحيى بن خالد بن برمك وأبناؤه جعفر والفضل وموسى أعلى المناصب في خلافة الرشيد، على أن الوشاة لم يتركوا البرامكة وشأنهم، فأوغروا قلب الخليفة ضدهم، كما أن البرامكة تجاوزوا الحدود في التعدي على سلطات الخليفة والاستبداد بأموال الرعية إضافة إلى ما ظفر منهم من موالاة لخصوم الدولة العباسية من آل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مما جعل الخليفة يقرر التخلص منهم فقتل جعفر بن يحيى وسجن الباقين. 4-الرشيد والإصلاحات: امتاز عصر ا لخليفة الرشيد بالعناية بالإصلاحات الداخلية فقد أمر رحمه الل بحفر الترع وأشرف على تحسين الري وتعبيد الطرق وإنشاء المستشفيات وبناء الجسور وكان لزوجة هارون الرشيد زبيدة، مكانة عالية فقد ساعدت زوجها في القيام بكثير من المشاريع والإصلاحات ومن أهمها المساعدة في إمداد مكة المكرمة بالمياه وتمهيد الطرق من العراق إلى مكة المعروف بدرب زبيدة. وفاته: مات الرشيد في الغزو، بطوس من خرسان ودفن بها في ثالث جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة، وله خمس وأربعون سنة وصلى عليه ابنه صالح. قال الصولي: خلف الرشيد مائة ألف ألف دينار ومن الأثاث والجوهر والورق والدواب ما قيمته مائة ألف ألف دينار وخمسة وعشرون ألف دينار. وقال غيره: غلط جبريل بن بختيشوع على الرشيد في علته في علاج عالجه به كان سبب منيته فهم أن يفصل أعضاءه فقال: أنظرني إلى غد فإنك تصبح في عافية فمات في ذلك اليوم، وقيل: إن الرشيد رأى مناما أنه يموت بطوس، فبكى وقال: احفروا لي قبرا فحفر له ثم حمل في قبة على جمل وسيق به حتى نظر إلى القبر فقال: يا ابن آدم تصير إلى هذا؟ وأمر قوما فنزلوا فختموا فيه ختمة قرآن وهو في محفة على شفير القبر، ولما مات بويع لولده الأمين في العسكر، وهو حينئذ ببغداد، فأتاه الخبر، فصلى بالناس الجمعة وخطب ونعى الرشيد إلى الناس وبايعوه، وأخذ رجاء الخادة البردة والقضيب والخاتم وسار على البريد في اثنا عشر يوما من مرو حتى قدم بغداد في نصف جمادى الآخرة فدفع ذلك إلى الأمين أتاه كتاب من ملك الروم (نقفور) بنقض الهدنة التي كانت عقدت بين المسلمين وبين الملكة (ديني) ملكة الروم وصورة الكتاب من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب: أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلي كانت أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيدق فحملت إليك من أموالها أحمالا، وذلك لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها وإلا فالسيف بيننا وبينك، فلما قرأ الرشيد الكتاب استشاط غضبا حتى لم يتمكن أحد أن ينظر إلى وجهه دون أن يخاطبه وتفرق جلساؤه من الخوف واستعجم الرأي على الوزير، فدعا الرشيد بدواة وكتب على ظهر كتابه: بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه، ثم سار ليومه، فلم يزل حتى نازل مدينة هرقلة وكانت غزوة مشهورة وفتحا مبينا، فطلب نقفور الموادعة والتزم بخراج يمله كل سنة فأجيب.