عكرمة بن أبي جهل

هو عكرمة بن عمرو بن هشام المعروف بأبي جهل كان من صناديد قريش المعدودين ومن شرفائها وسادتها ورث السيادة والشرف عن أبيه أبي جهل كما ورث العداوة للإسلام أيضا. كان عكرمة شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورث هذه العداوة في جاهليته عن أبيه أبي جهل، وكان اسم أبيه عمرا وكنيته: أبو الحكم فكناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي جهل حتى غلبت عليه هذه الكنية، واشتهر بها بين الناس ونسي اسمه الأصلي، وكنيته الحقيقية.. ومن يشابه أباه فما ظلم. لقد اشتد أبو جهل وابنه عكرمة على المسلمين، وآذوهم إيذاء شديدا، حتى فر بعضهم من هذا الظلم إلى الحبشة، واستجار بعض آخر بالمشركين ذوي الحول والطول، ولكن عكرمة مع ذلك لم يكف آذاه، ولم يمنع شره، وشجع الشعراء على هجاء النبي وأصحابه وحضر مجالس الجواري اللائي كن يتغنين بسب النبي عليه السلام، والنيل منه ومن أصحابه. عكرمة بن أبي جهل في غزوة بدر: أثار أبو جهل حماسة قريش لقتال المسلمين في غزوة بدر بعد أن أصر على ملاقاتهم فلما بدأ القتال أحاط به مجموعة من المقربين منه يدافعون عنه فيهم ابنه عكرمة، وقد أخذوا رماحهم وسيوفهم يصدون بها كل من حاول الوصول إليه. وفي أثناء المعركة صرع أبو جهل وكان الذي صرعه معاذ بن عمرو بن الجموح أحد الأنصار الذي شهدوا بيعة العقبة فقد ظل يترقبه حتى سنحت له الفرصة، عندما بانت له فرجة في نطاق الرماح المضروبة حوله، فانقض نحوه كالصقر ثم ضربه ضربة بترت قدمه مع نصف ساقه، فخر صريعا يتخبط في دمائه. غير أن ابنه عكرمة الذي كان بجانب أبيه، لم يدع معاذ بن عمرو يفر من أمامه، ولكنه كر عليه بسيفه فضربه ضربة فصلت يده من العاتق وظلت متعلقة بجلده إلى جانبه، وبالرغم من ذلك ظل يقاتل بيد واحدة يومه فلما آذاته يده المعلقة، وضع قدمه عليها حتى فصلها، وعاش بيد واحدة حتى خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه. في غزوة أحد: كان مقتل أبي جهل والد عكرمة سببا في إيقاد نار الحقد والكراهية في نفس عكرمة فلما كانت قبل أحد جمع عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن أبي ربيعة، وصفوان بن أمية، رجالا من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، وكلموا أبا سفيان بن حرب، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمد قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، فلعلنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منا، ففعلوا وتعبأت قريش، وكانت عدتهم ثلاثة آلاف رجلن ومعهم مائتا فرس، فجعلوها على جوانب الجيش، وكان على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل. وكان عدد المسلمين سبعمائة رجل، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم على الرماة عبد الله بن جبير وكان معه خمسون راميا، وأمره أن يثبت هو ورجاله في مكانهم فلا يبرحونه حتى لا يطعنوا من قبلهم.. ولما أحس أصحاب عبد الله بن جبير من الرماة الذين كانوا يحمون ظهور المسلمين بنصر المسلمين وبداية جمعهم للأسلاب والغنائم تركوا مكانهم، وراحوا يساعدون في جمع الغنائم ولم يثبت مع عبد الله إلا عشرة فانتهز عكرمة بن ابي جهل وخالد بن الوليد هذه الفرصة والتفا بمن معهما من الفرسان خلف المسلمين، وانهالوا عليهم بسيوفهم فاختل ميزان القوى، وتحول النصر العظيم إلى هزيمة وأصيب عدد غير قليل من المجاهدين. يوم الخندق: في شوال سنة خمس من الهجرة قام جماعة من اليهود من بني النضير بتأليب القبائل على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وذهب جماعة منهم إلى قريش وإلى غيرهم من القبائل، ودعوهم إلى حرب محمد.. وهبت قريش يقودها أبو سفيان بن حرب، وجمع حوله أركان حربه وفي طليعتهم عكرمة بن أبي جهل واهتم المسلمون بالأمر وحفروا خندقا حول المدينة.. غير أن عددا من شجعان قريش وأبطالها ومنهم عكرمة بن أبي جهل ظلوا يتحينون الفرصة للقتال وعجبوا من هذا الخندق الذي حفره المسلمون حول المدينة، وبحثوا فيه عن مكان ضيق، فضربوا خيلهم فاقتحمت منه، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر معه من المسلمين فأخذ عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، ودعا عمرو بن ود، إلى المبارزة فتصدى له علي بن ابي طالبن ولم يتركه حتى دق عنقه. وفر هؤلاء المشركون، ومعهم عكرمة بن أبي جهل حتى إنه ترك رمحه ناجيا بنفسه. يوم فتح مكة: وفي يوم فتح مكة لم يستجب عكرمة لنداء السلام والأمان كما لم ترهبه قوة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يؤثر فيه أن أعمدة الشرك الكبرى قد خضعت وقد لانت، وراح يجمع حوله صناديد قريش، وأعتاهم كفرا وأصلبهم قوة.. وهناك عند جبل بمكة يسمى الخندمة تأهب عكرمة ورفاقه وما هي إلا ساعات حتى اشتبكوا في قتال مرير مع جيش المسلمين الذي يقوده خالد بن الوليد، فإذا بالرؤوس تتطاير، والسيوف الماضية تتكسر، وسنابك خيل المسلمين تدوس هؤلاء المشركين، وانجلت المعركة في لحظات، فانهزم عكرمة ورفاقه ولاذوا بالفرار. إسلامه عكرمة : لعل أول الدوافع التي حركت نفسه إلى الإسلام تذكره موقف أبيه أبي جهل حين تعرض لمحمد في الكعبة وهو يصلي، وحمل حجرا ثقيلا ودنا منه ليحطم به رأسه وهو ساجد، وقد استأذن قريشا في ذلك فأذنت له، ووعدته بالمنعة والنصرة، ولكنه ما كاد يهم بما عزم عليه حتى رد عن عزمه مذعورا وتسمرت قدماه، ويبست يداه، وامتقع لونه، وسقط الحجر منه.. وقد ظل هذا المنظر يأخذ حقه من تفكيره وتقرب بينه وبين الإسلام. وثمة دافع آخر دفعه إلى العجب والدهشة، وتساءل عنه في حينه ولم يجد له جوابا شافيا.. ذلك هو أمر المسلمين في غزوة الأحزاب، وقد تألبت عليهم العرب من كل جانب، وأحاطوا بهم من فوقهم ومن أسفل منهم وسلط الله عليهم ريحا صرصرا عاتية أكفأت قدورهم، وقلعت خيامهم وأطارت أسلحتهم فعادوا بالخيبة والعار أدراجهم. لقد آن له بعد أن زالت الموانع أن يتدبر فيما رأى، وأن يدرك أن محمدا ممنوع وأن العناية الإلهية تحرسه وتحميه. ودافع ثالث تراءى له يوم أن فر أمام خالد بن الوليد عند فتح مكة ودفعت به قدماه إلى جدة ليركب السفينة متجها إلى اليمن، لقد هبت على السفينة ريح عاصف كادت تقلبها فنادى أصحاب السفينة قائلين: أيها الناس أخلصوا لله نياتكم فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا ها هنا. فقال عكرمة في نفسه: إن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص فما ينجيني في البر غيره، اللهم لك علي عهد إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما. لقد ملأت هذه الدوافع نفسه، وانضم إليها تفكير العقل الهادئ المتزن بعد أن ابتعدت عنه الموانع، فراح يسأل نفسه: لماذا نعادي محمد وهو لا يدعو إلى شر ولا يقول إلا الصدق ولا ينهى إلا عن منكر؟ لماذا نعاديه وشرفه شرف لنا رفعته رفعة لقومنا؟!. ومضى في الإسلام يعوض ما فاته، ويبذل في سبيله وسعه، ويعمل جهده، حتى كتب بجهاده سطورا من نور.. جعلته بين الصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. عكرمة يجمع صدقات هوازن ويحارب المرتدين: أسلم عكرمة وحسن إسلامه، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم له قدره ومكانتهن ودفع به إلى حيث يتحمل المسؤولية فيصقله تحملها، ويواجه بذلك أعباء الدعوة الإسلامية وكان أول عمل أسنده إليه الرسول صلى الله عليه وسلم هو أن يجمع الصدقات من هوازن. واستعمله الصديق على عمان حين ارتدوا فظفر بهم، ثم أرسله إلى مهرة وإلى اليمن فأسهم في القضاء على المرتدين، وإعادة الأمر للمسلمين. جهوده في حروب المسلمين مع الروم: في إيليا: كان أبو بكر بعد أن رجع من الحج في السنة الثالثة عشرة من الهجرة قد عزم على محاربة الروم عملا بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة، واعلموا أن الله مع المتقين. وحرصا على الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الحق، وهزيمة الباطل. وقد أحسن الروم بما عزم عليه المسلمون فرفعوا الأمر إلى هرقل ومن ثم أعد العدة للحرب والقتال.. وبدأت الحرب متفرقة في أماكن عدة، والتقى خالد بن سعيد بجمع كثير من نصارى العرب، فلما اقترب منهم تفرقوا عنه ودخل كثير منهم في الإسلام، فبعث إلى الصديق يعلمه بما وقع من الفتح، فأمره الصديق أن يتقدم ولا يحجم، وأمده بعكرمة بن أبي جهل. وكان خالد بن سعيد قد تقدم بجيشه نحو إيلياء فتعرض له قائد من قواد الروم اسمه ماهان فكسره خالد بن سعيد فتقهقر ماهان وتبعه خالد حتى دخل ماهان دمشق وتبعه خالد فإذا بجيوش ماهان التي كانت ترابط على طول الطريق تطبق على خالد بن سعيد وعلى جيوشه، وتنال منهم، وفر خالد بن سعيد ومن معه، واستشهد عدد كبير من المسلمين. ولم يثبت في هذه المعركة إلا عكرمة بن أبي جهل وجيشه وقد تقهقر قليلا عن دمشق وبقي ردء لمن نفر إليه من جيش خالد بن سعيد، وظل عكرمة في مكانه على أهبة كاملة ولكنه لم يشأ أن يبادر الروم بالقتال انتظارا لمدد ابي بكر الصديق. عكرمة في اليرموك: كتب قواد المسلمين إلى أبي بكر وعمر يعلمونهما بالموقف فكتب إليهم أن اجتمعوا وكونوا جندا واحدا.. وأرسل أبو بكر الصديق إلى خالد بن الوليد أن يترك العراق بعد أن يولي عليها نائبا من قبلهن ويلحق بجيوش المسلمين في الشام.. وقد تجمع جيش المسلمين بعد وصول الإمدادات وقد بلغت ثلاثين ألفا وانضم إليهم عكرمة بجيشه وكان عدده ستة آلاف فصارت عدة جيوش المسلمين ستة وثلاثين ألفا واجتمعوا تحت قيادة خالد بن الوليد، فرتب الجيش وجعل عكرمة بن أبي جهل و القعقاع بن عمرو على مجنبتي القلب، وطلب منهما أن ينشبا القتال، فبدرا يرتجزان ودعوا إلى البراز، وتنازل عكرمة وأحد الأبطال من الروم فصرعه، ومع آخر فجندله، ومثل ذلك فعل القعقاع بن عمرو وتنازل الأبطال وتجاولوا وكانت الحرب سجالا، ظهرت فيها البطولات الإسلامية، والتضحيات الفردية. وها هو عكرمة يقول بأعلى صوته في المعركة: قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة وأفر منكم اليوم. ثم نادى أيها الناس! أيها المسلمون!! من يبايع على الموت؟ فبايعه عمه الحارث، وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم فقاتلوا أمام فسطاط خالد حتى جرحوا جميعا وقتل منهم خلق كثير منهم ضرار بن الأزور. الظفر بالشهادة كان عكرمة بطلا في حربه ولقائه، شجاعا مقداما لا يهاب الموت، بل كان حريصا على الشهادة تواقا إليها، وقد حصل له ما أراد وتحققت أمنيته في معركة اليرموك حيث جرح جراحة شديدة سقط على إثرها صريعا وبه رمق وقد طلب جرعة من الماء فلما قدم إليه الماء ليشرب أحس بأن له صاحبا بجواره يطلب الماء فرفض أن يشرب حتى يرتوي الذي يليه، وهكذا حتى مات الثلاثة دون أن يشرب واحد منهم. وكان لهذه البطولة الفذة التي أبداها عكرمة وضرباؤه أثر في تلك الهزيمة التي حلت بالروم، وفي تحقيق النصر العظيم للإسلام والعزة للمسلمين. ما قيل في حقه: قيل: إنه لا يعرف له ذنب بعد ما أسلم، وكان يقبل المصحف ويبكي ويقول: كلام ربي.. كلام ربي. قال الشافعي: كان عكرمة محمود البلاء في الإسلام. وقد قال في حقه رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت لأبي جهل عزقا في الجنة، فلما أسلم عكرمة بن أبي جهل: قال: يا أم سلمة هذا هو. وروي أن خالد بن الوليد أمر بعد نهاية المعركة، أن يحمل إليه عكرمة بن أبي جهل و عمرو بن عكرمة فوضع رأس عكرمة على فخذه، ورأس عمرو على ساقه وجعل يمسح عن وجوههما، ويقطر الماء في حلوقهما ويقول: كلا زعم ابن الحنتمة أنا لا نستشهد. رحم الله عكرمة ورحم الله ابنه عمران لقد مات عكرمة ولم يترك وراءه عقبا.