فتح الحيرة
الخروج والمسير إلى الحيرة: الحيرة بلدة تقع في أرض العراق وكانت جيوش المسلمين التي تفتح العراق في ذلك الوقت بإمرة خالد بن الوليد فأمر خالد بن الوليد بجمع أعداد كبيرة من السفن ووضعها في خليج أمغيشيا لينقل المشاة من جنوده فيها نحو الحيرة. ذلك أن الطريق الذي كان سيسلكه جيش المسلمين إلى الحيرة امتلأ بالوحول والبرك بفعل نزول الأمطار كما أن ذلك صادف في فصل الربيع حيث يفيض النهران: دجلة والفرات فيفصلان الطريق الموازية للنهر مما يعيق حركة المشاة ويبطئ سيرهم. وعندما اجتمع العدد المطلوب من السفن انطلق خالد بن الوليد على رأس الفرسان والرواحل خلفهم تحمل الأثقال في حين ركب المشاة من الجنود السفن ووجهوها باتجاه الحيرة وكان عدد كبير منهم لم يسبق له أن نزل البحر. التصدي للمسير وسد نهر الفرات من قبل الفرس: في نفس الوقت كان آزاذبه نائب ملك الفرس على الحيرة يترصد أخبار المسلمين ويبعث جواسيسه لتزويده بأنباء تحركاتهم وأهدافهم. ولما علم بركوب السفن من قبل المسلمين أدرك أن الهدف هو الحيرة. جمع آزاذبه الفرس المتواجدين في الحيرة وخرج بهم منها حيث عسكر في خارجها وترك العرب النصارى فيهم لوحدهم يجابهون مصيرهم. ووصل ابن آزاذبه إلى فم نهر الفرات بادقلي فعمد إلى سده هناك بالتراب والقصب وحول مجرى الماء في اتجاهات أخرى ثم أرسل فرقة متقدمة من فرسانه إلى مكان يقال له: المقر وأمرهم بالنزول هناك لملاقاة المسلمين وإنذاره بمقدمهم. وأخذت الماء تخف في النهر وبدأت السفن تتمايل ثم تجنح على الرمال وتوقف خالد بن الوليد وسأل عن سبب توقف جريان الماء في النهر وكان في جيشه ملاحون من تلك البلاد فأخبروه أن الفرس سدوا فم النهر وحولوا الماء في غير اتجاهه الطبيعي. إزالة السد من قبل المسلمين: اختار خالد بن الوليد بضع مئات من فرسانه وسار بنفسه على رأسهم ليزيل السد ويعيد المياه إلى مجاريها .. وانطلق شمالا بغرب بمحاذاة فرات بادقلي حتى وصل إلى المقر وشاهد هناك خيولا للفرقة التي أرسلها ابن آزاذبه إلى هناك، والجنود نائمون ففاجأهم خالد بن الوليد وأبادهم كلهم كي لا تصل الأخبار إلى ابن آزاذبه. ولم يتوقف خالد بن الوليد وفرسانه في المقر بل تابع انطلاقته مسرعا حتى بلغ معسكر ابن آزاذابه واقتحم عليهم معسكرهم ودارت معركة قصيرة وعنيفة وقوية انتهت بهروب الفرس وانتصار المسلمين. ونزل خالد بن الوليد وفرسانه في ذلك المكان وأزال السد وأعاد المياه إلى مجاريها وأرسل إلى باقي جيشه باللحاق به بعد أن عادت السفن إلى المسير في مياه النهر. تجمع الجيش الإسلامي عند قصر الخورنق: لم يتوقف خالد بن الوليد بعد أن أزال السد، بل انطلق مسرعا بمن معه حتى سار مسافة تقارب العشرين كيلو مترا ووصل إلى قصر الخورنق الذي أمر النعمان بن المنذر ببنائه هناك خارج الحيرة ونزل خالد بن الوليد بذلك المكان بانتظار قدوم بقية جيشه إليه.. في حين أنه سبق لأزاذبه أن نزل في مكان بين القصر الأبيض و الغريين. وصدف في ذلك الحين أن مات ملك الفرس أردشير بن شيرويه وبلغ آزاذبه نبأ موت الملك، وكان قد ابلغ قبل ذلك بمقتل ابنه في فرات بادقلي .. فجمع رجاله وهرب إلى شرق الفرات دون أن يقاتل خالد بن الوليد لأنه لم يكن هناك من ينجده بعد أردشير. ووصلت بقية جيش المسلمين إلى الخورنق حيث معسكر قائدهم خالد بن الوليد.. ولما اكتمل حضور جميع الجنود أمر خالد رجاله بالمسير حيث نزل في المكان الذي سبق لآزاذبه أن نزل به في موضع بين القصر الأبيض والغريين، وهكذا وضع جيش المسلمين إلى ظاهر الحيرة وهو يشرف عليها كليا. تحصن أهل الحيرة: قضى خالد بن الوليد يرقب الحيرة من موقعه وقد فرغت من الفرس وتركوا أهلها العرب يواجهون وحدهم مصيرهم أمام المسلمين وتمنى خالد بن الوليد في قرارة نفسه لو يسلم العرب هناك فيجنبوا أنفسهم هزيمة وموتا محققا .. إلا أن ما شاهده منهم دل على أنهم ينوون خوض معركة والدخول في قتال. فقد تحصن أهل الحيرة في قصورهم الأربعة بعد أن أدخلوا إليها الذراري والأولاد .. ولم يبق أمام خالد إلا مباشرة القتال بعد أن وجد في أولئك القوم عقولا ناقصة فكانوا أعداء أنفسهم. توزيع الجيش الإسلامي على قصور الحيرة: وزع خالد جيشه على أربع فرق أوكل إلى كل فرقة مهمة وعين عليها أميرا على الصورة التالية: 1-الفرقة الأولى بإمارة ضرار بن الأزور قامت بمحاصرة القصر الأبيض وكان الرئيس فيه إياس بن قبيصة الطائي. 2-الفرقة الثانية بإمارة ضرار بن الخطاب الفهري قامت بمحاصرة قصر العدسيين وكان الرئيس فيه عدي بن عدي بن المقتول. 3-الفرقة الثالثة بإمارة ضرار بن مقرن المزني قامت بمحاصرة قصر بني مازن وكان الرئيس فيه حيري بن آكال. 4-الفرقة الرابعة بإمارة المثنى بن حارثة الشيباني قامت بمحاصرة قصر ابن بقيلة وكان الرئيس فيها عمرو بن عبد المسيح. الهجوم على القصور: جمع خالد بن الوليد قواد الفرق الأربعة قبل ذهابهم لمحاصرة القصور وزودهم بتعليماته ثم قال لهم: ادعوهم إلى إحدى ثلاث الإسلام أو الجزية أو القتال وأمهلوهم يوما واحدا.. ولا تمكنوا عدوكم من أذاكم فيتربصوا بكم الدوائر ولكن ناجزوهم ولا تردوا المسلمين عن قتال عدو. وذهب كل أمير على رأس فرقته وحاصر القصر الموكل إليه وكان أول من أنشب القتال ضرار بن الأزور فقد حاصر القصر الأبيض وأرسل يبلغ أهله قبول أحد الأمور الثلاث فاختاروا القتال. وصف ضرار بن الأزور رجاله حول القصر ثم سمع صياحا صادرا من داخله يقول: عليكم بالخراريف فأمر عندئذ جنوده بالتراجع عن مرمى الجنود من حصن القصر وقال لهم: تنحوا لا ينالكم الرمي حتى ننظر في الذي هتفوا به. ونظر المسلمون إلى أعلى الحصن حيث شاهدوا الرجال وقد انتشروا على سطحه وهم يعلقون في رقابهم المخالي ثم بدأوا يخرجون منها صحون الفخار المكورة ويقذفونها باتجاههم. واختار ضرار بن الأزور من بين جنده فرقة تضم أمهر رماة النبال وقال لهم: أرشقوهم وفرقوهم .. وتقدم الرماة حيث صوبوا سهامهم ونبالهم وقذفوها باتجاه سطح الحصن.. فتراجع المقاتلون عنه حتى اختفوا تماما. مثل ذلك الأمر حصل في القصور الثلاث الأخرى. أمر ضرار بن الأزور رجاله باقتحام القصر بعد أن اختفى رماة الخزف من على سطحه .. فاقتحموا البوابة الرئيسية فخلعوها ودخلوا القصر يعملون السيف في رقاب أهله. واستطاع ضرار بن الخطاب وضرار بن مقرن والمثنى بن حارثة من اقتحام القصور الأخرى ودارت معارك قوية وطاحنة حتى كثر القتل في العرب النصارى فخرج القسيسون والرهبان من أديرتهم ونادوا أهل الحصون بقولهم: يا أهل القصور .. ما يقتلنا غيركم قبول أهل الحيرة بالصلح: حاول أهل الحصون المقاومة أكثر إلا أنهم أدركوا أنه لا مقدرة عندهم للصمود في وجه المسلمين فأخذوا ينادون المسلمين قائلين: يا معشر العرب.. قد قبلنا واحدة من ثلاث فادعوا بنا وكفوا عنا حتى تبلغونا خالدا. وأوقف المسلمون القتال دون أن يتخلوا عن مواقعهم ومتابعتهم لمحاصرة القصور الأربعة والمناطق التي دخلوها. وكان أول الخارجين عمرو بن المسيح حيث أقبل إلى المثنى بن حارثة ثم تبعه رؤساء الحصون الباقية. وخرج إياس بن قبيصة من القصر الأبيض إلى ضرار بن الأزور. وخرج عدي بن عدي ومعه أخوه زيد بن عدي من قصر العدسيين إلى ضرار بن الخطاب. وخرج حيري بن آكال من قصر بني مازن إلى ضرار بن مقرن المزني. وأرسل كل أمير من الأمراء الأربعة من خرج إليه من رؤساء القصور إلى خالد بن الوليد وقد أرفقه برجال ثقات كي لا يفروا. ولم يشأ خالد بن الوليد أن يجتمع بهم كلهم مرة واحدة بل آثر أن يجتمع بكل واحد منهم على حدة. وكان الوسيط فيها عمرو بن عبد المسيح فقد اختاره قومه لكبر سنه ونضجه وحكمته. كتاب الصلح: أمر خالد بن الوليد بإحضار شيء يكتب فيه وكتب بخط يده كتاب الصلح وجاء فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عديا وعمرا ابني عدي وإياس بن قبيصة وحيري بن آكال وهم نقباء أهل الحيرة ورضي بذلك أهل الحيرة وأمروهم به. عاهدهم على مائة وتسعين ألف درهم تقبل في كل سنة جزاء عن أيديهم في الدنيا .. رهبانهم وقسيسيهم إلا من كان منهم غير ذي يد حبيسا عن الدنيا تاركا لها وسائحا تاركا للدنيا.. وعلى المنعة فإن لم يمنعهم فلا شيء عليهم حتى يمنعهم .. وإن غدروا بفعل أو بقول فالذمة منهم بريئة. كتب في شهر ربيع الأول من سنة اثنتي عشرة. وأعطاهم خالد بن الوليد الكتاب .. وهكذا سقطت الحيرة وتحققت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتحها.