العشر الأواخر .. تؤذن برحيل شهر الخيرات

ها هي قد دخلت العشر الأواخر من رمضان، مؤذنة بذلك قرب انتهاء الشهر، إنها العشر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتفرغ فيها لعبادة ربه ومولاه، ويبتعد فيها عن الدنيا وما فيها من شواغل وملهيات، حتى إنه عليه الصلاة والسلام كان لا ينام ليله بل يجعله كله في عبادة وطاعة، وقد شد مئزره وأيقظ أهله، وشمر عن ساعد الجد. هذه العشر هي أفضل أيام رمضان، وأرجى أيام المغفرة والعتق من النار، كيف لا وقد حوت ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. إنها العشر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يوليها من الرعاية والعناية ما لا يوليه لسائر أيام الشهر، فكان يجتهد فيها بالعبادة أكثر مما يجتهد في غيرها، حتى إنه كان من حرصه على أن تكون هذه الأيام أيام عبادة وطاعة كان لا يقترب من نسائه، بل يتفرغ لربه ويدعو أهله لذلك. إنها العشر الذي انتهى اعتكافه صلى الله عليه وسلم إليها، وكذلك أزواجه من بعده، وتبعه في ذلك أصحابه رضوان الله عليهم، وسار على نهجهم عباد الله الصالحون. النبي صلى الله عليه وسلم والعشر الأواخر توضح أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مدى جد النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر في العبادة وتميزها عن غيرها فتقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها. رواه مسلم وهي تقول أيضا: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله، وأيقظ أهله. رواه البخاري ومسلم بل إنه عليه الصلاة والسلام كان إذا دخلت هذه العشر يكاد يمتنع عن النوم بالليل كل ذلك لحرصه على ألا تفوت منه هذه الأيام دون طاعة وقد لاحظت ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم فإذا كان العشر شمر وشد المئزر. رواه أحمد. أين نحن من الهدي النبوي فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يجتهد فيها أكثر مما يجتهد في غيرها، وهذا شامل للاجتهاد بجميع أنواع العبادة، من صلاة وقراءة قرآن وصدقة وغيرها. فإذا كان هذا هو حال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فأين نحن من هديه عليه الصلاة والسلام. لماذا لم يكن عندنا من الجد والاجتهاد وإخلاص النية وصدق اللجوء إلى الله، ما يجعلنا نتفرغ لعبادة الله جل وعلا في هذه الأيام الفاضلة، وهل تفرغ المسلم لربه عشرة أيام في السنة بكثير، وقد أنعم عليه بكل هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى، وهل هناك أعظم وأرجى من هذه العشر الأواخر. إن المسلم عندما يعلم أن هذه العشر لا يمكن أن تشترى بمال ولا تقايض بمتاع، بل ولا بالدنيا كلها، لجدير به أن تكون همه في قيامه وقعوده، في ذهابه و إيابه، في حركاته وسكونه. هلا اغتنمنا الفرصة الجميع يعلم أن هذه العشر فيها ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، كما أخبر بذلك الله جل وعلا، ومن أصدق من الله قيلا ؟ فهلا اغتنمنا الفرصة قبل فواتها وهلا صبرنا على عبادة ربنا في عشر لا تلبث أن تنقضي، لعلنا بذلك ندرك ليلة القدر، فنظفر بأجر وثواب يعادل أجر وثواب عبادة أكثر من ثمانين سنة. انظر رحمك الله لحرص عائشة رضي الله عنها على إدراك ما يمكن من فضل وثواب في هذه العشر وخاصة ليلة القدر، فهي تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل ما تفعله وتقوله إذا هي رأت أو عرفت ليلة القدر، فتقول: يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. فما أعظم هؤلاء الصحابة إنهم عرفوا فضائل تلك الأيام، وحرصوا على أن لا يكون فيها خير أو أجر أو ثواب إلا واكتسبوه. أخي الحبيب بادر باكتساب هذه الأيام، فهي أيام عبادة وطاعة وقربة إلى الله، إنها أيام حصد الحسنات، ورفعة الدرجات والعتق من النيران، إنها أيام الطاعات فيها متنوعة، والعبادة فيها شاملة، ليست قاصرة على نوع أو عبادة معينة فمن ذلك: صلاة التراويح، والتراويح لا شك في فضلها وعظم أجرها، ومن قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له أجر ليلة كاملة. ثم هناك قراءة القرآن، الذي جعل الله جل وعلا بقراءة كل حرف منه عشرة حسنات، ولذا كان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان وبالليل أيضا كما جاء في حديث البخاري. ومنها الدعاء بالمغفرة والرحمة والعتق من النيران، خاصة قول: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ومنها التسبيح والتكبير والتهليل وكثرة الاستغفار، وذكر الله جل وعلا. ومنها كثرة الصدقات فهي من أسباب المغفرة وجلب الخير للإنسان، والله جل وعلا يضاعفها أضعافا كثيرة. ومنها تفطير الصائمين فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من فطر صائما كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيئا. ومنها الاعتكاف وهو أعظم العبادات التطوعية وأفضلها في هذه العشر، وذلك لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ومواظبته على ذلك فقد روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده. متفق عليه وعنها رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان. رواه البخاري ومسلم. ومنها تحري ليلة القدر واغتنامها بالطاعات خاصة في الليالي الوتر منها وهي ليلة الحادي والعشرين، وليلة الثالث والعشرين والخامس والعشرين والسابع والعشرين والتاسع والعشرين. وآكدها السبع الأواخر وآكدها ليلة السابع والعشرين. كلمة أخيرة أخي الحبيب كم من أناس قبضوا قبل إدراك فضل هذا الشهر، وكم من أناس ماتوا قبل دخول هذه العشر وأنت قد مد الله في عمرك وأنسأ لك في أجلك، فما هو عذرك في التفريط والتقصير. كم مر علينا من رمضان، وفي كل مرة نمني أنفسنا بالطاعة والعبادة، واستغلال شهر الغفران، ثم ينتهي الشهر دون فائدة. ألم تسمع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم... أتاني جبريل فقال: يا محمد من أدركه شهر رمضان فخرج ولم يغفر له فأبعده الله قل آمين. فقلت: آمين. ولا أظنك ترضى أن يبعدك الله عن رحمته وجنته ومغفرته فالبدار البدار وحذار من التسويف والتكاسل والتقاعس، وشمر عن ساعد الجد، وأر الله من نفسك خيرا، واستعن بالله يعنك الله، وأخلص النية يوفقك ربك. نسأل الله للجميع الرحمة والمغفرة والقبول في هذا الشهر العظيم.