الطلاق دون سبب مقبول.. تعسف وظلم

لا شك أن الفراق قد يطرأ على حياة الزوجين حين يقع الشقاق وتشتد الخصومة بينهما، ويختل توازن ما في حياتهما من أمور وحاجات وأحلام، ويشعر أحدهما أنه لم يعد بإمكانهما التفاهم والاستمرار في الحياة الزوجية كسابق عهدهما، وكثيرا ما يؤدي النزاع والخصومة إلى الطلاق، وقد يكون ذلك الحل الأمثل. ولكن كثيرا من الرجال يتهاونون بشأن الطلاق، فيرسلون ألسنتهم بكلمة (أنت طالق) دونما نظر في عواقبها، وكثيرا ما يقع الطلاق فعلا لأسباب تافهة، فيبدد شمل أسرة متماسكة، ومن هذه الأسباب نزوة غضب وعناء تستبد بالمرء، فتعمي بصره وتشل تفكيره وتقوده إلى الطلاق التعسفي، الذي يقدم عليه الرجل دون سبب مقبول. تقول (ل، ح): لقد طلقني زوجي لخلاف بسيط دار بيني وبينه حول الأولاد، وتلفظ بالطلاق في ساعة غضب، وكانت النتيجة أن أصبحت مطلقة، فتأزمت حالتي كثيرا، ولم أتوصل إلى استعادة توازني النفسي إلا بعد عام كامل تقريبا، ولا أزال أمر في حالات متتالية من المتاعب، لكن أستطيع القول بأنني الآن أفضل بكثير، ولا رغبة لي بالعودة إلى عصمته، إنه رجل مستهتر.. أما ( ن ، ع ) فقد تحدثت كيف أثر الطلاق الجائر على حياتها بقولها: كنت محبطة للغاية من حالة نفسية لم أستطع السيطرة عليها بحال من الأحوال، لقد هجرني زوجي دونما سبب حقيقي، وذلك عندما كنت في العشرين من عمري، وطلقني بعد فترة، وبعدها أمضيت شهرين في المستشفى على أثر حالة من الانهيار العصبي، كان من الصعب للغاية التغلب على آلام هذا الانفصال، كانت تنتابني أحاسيس متناقضة من حزن وغضب وضيق نفسي، كان علي أن أمر في فترة من الحداد كما لو أنني فقدت كائنا عزيزا علي، ولم أجد طعما للحياة إلا بعد مرور عامين. الحلف بالطلاق وبسبب نزوات بعض الرجال يقع الطلاق التعسفي في صورعديدة، منها أن يخرج الرجل إلى السوق أو يجلس في المقهى فيختلف مع آخر في شأن جليل أو بسيط، فيحلف أحدهما أو كلاهما بالطلاق، فتكون النتيجة خراب بيت أو تمزيق أسرة، وتشريد أولاد. وقد يتناقش آخر مع صهره في زيارة فيحلف أحدهما أو كلاهما بالطلاق، فتكون العاقبة تقطيع الأرحام، أو انفصام عرى. وقد يتنازع اثنان على أمر ما، أو في حال الجو من غيم أو صحو، فتجري ألفاظ الطلاق كأنها لازمة للحديث، ويستضيف أحدهم صاحبه، وإذا تمنع صاحبه حلف عليه بالطلاق كي يحضر وهلم جرا. وقد يستعجل الزوج في طلاق زوجته بعد أن يدخل بها مباشرة، إما لطولها المفرط أو لقصرها، أو لنحولها أو لامتلائها، أو لغير ذلك مما تختلف فيه الأذواق فيبادر إلى تطليقها دونما تأن أو تريث. وكأن الكثير من هؤلاء لم يتزوج إلا ليجعل الزوجة أداة يمين ليصدقه الناس حين يحلف، وكثيرا ما تطلق الزوجة بتلك الأيمان، وهي لم ترتكب ذنبا، إنها آمنة في بيتها سعيدة بزيجتها، لكنها تفاجأ بالطلاق من زوج غير مسؤول، فتكون المأساة من نصيب تلك الزوجة المسكينة. وبمثل هذه الأسباب يحدث الكثير من حالات الطلاق، وكثيرا ما يندم الزوج إذا طلق، فبعد أن كان آمنا في أسرته يعض على يديه بسبب تفريطه وعجلته دون سبب معقول. يعد الزوج متعسفا في طلاقه في حالتين، هما كما تقول المحامية عليا عيد: في حالة الطلاق البائن في مرض الموت، وهذا ما يسمى بطلاق الفرار، والطلاق دون سبب معقول. وطلاق الفرار يكون من الزوج ومن الزوجة أيضا، وقد اشترط الأحناف لتوريث الزوجة في هذه الحالة، أن يقع الطلاق البائن في مرض الموت أو في حالة يغلب فيها على المطلق الهلاك ثم يصل فيها إلى الهلاك، وأن لا يكون مكرها على الزوجة، وأن يتم الطلاق بإرادة الزوج وليس بالاتفاق مع زوجته، وأن تكون المرأة في العدة، وأن تستمر أهلية المطلق للإرث من وقت الإبانة حتى وقت الوفاة، والمرأة الكتابية لا تورث في أي من الوقتين. كما أعتبر القانون الطلاق دون سبب معقول طلاقا تعسفيا، وأجاز للمرأة فيه تعويضا لا يتجاوز نفقة ثلاث سنين إذا أصابها بؤس وفاقة نتيجة هذا الطلاق، وهذا ما ورد ذكره في المادة 117 من قانون الأحوال الشخصية السوري، حيث جاء فيها إذا طلق الرجل زوجته وتبين للقاضي أن الزوج تعسف في طلاقها دونما سبب معقول، وأن الزوجة سيصيبها بذلك بؤس وفاقه جاز للقاضي أن يحكم لها على مطلقها بحسب حاله ودرجة تعسفه بتعويض لا يتجاوز مبلغ نفقة ثلاث سنوات لأمثالها فوق نفقة العدة، وللقاضي أن يجعل دفع هذا التعويض جملة أو شهرية بحسب مقتضى الحال. يتبين من خلال شروط استحقاق التعويض أنه لا يتم تحققه للمطلقة تعسفيا إلا إذا توافرت فيه عدة شروط وهي: أولا أن يكون الطلاق بإرادة مفردة من الرجل وأن يكون دون سبب معقول. وأن يصيب المرأة من هذا الطلاق بؤس وفاقة. وتعلق المحامية غادة همج على نص القانون بالقول: نلاحظ من هذه الشروط الصارمة والمشددة لاستحقاق المطلقة تعسفيا التعويض أن القانون حمى الرجل وجعله يتمادى كثيرا في استعمال حقه غير آبه بالنتائج السلبية التي يسببها لزوجته وأطفاله، وذلك كله لعدم وجود رادع كاف وفعال يعيده إلى جادة الصواب، ويحمي الأسرة من استهتاره. فعندما يشترط القانون أن يكون الطلاق بإرادة الزوج المنفردة، ويستثني التعويض في حالة المخالعة والتفريق القضائي وتفويض المرأة بطلاق نفسها، هذا كله دفع بالكثير من الرجال إلى معاملة زوجاتهم بقسوة، وجعل المنزل الزوجي جحيما لا يطاق حتى تلجأ الزوجات إلى قبول المخالعة، أو يلجأن إلى القضاء، وذلك ليخلص الرجل من عبء دفع تعويض لمطلقته. وكذلك اشتراط إصابة الزوجة بالبؤس والفاقة يعطي الكثير من الرجال الحصانة من دفع التعويض، لأن وجود معيل للمطلقة يمكنه الانفاق عليها يجعلها غير مستحقة لتعويض الطلاق التعسفي، ويقع عبء إثبات البؤس والفاقة على الزوجة، وذلك ليس بالأمر اليسير عليها. كذلك إذا كانت المرأة عاملة فهي لا تستحق التعويض، وهذا إجحاف كبير في حق المرأة، التي حملت أعباء العمل داخل البيت وخارجه، وتساعد زوجها في تأمين مستلزمات المعيشة للأسرة، وفي اجتهاد آخر لمحكمة النقض جاء فيه: أن المطالبة بالتعويض التعسفي لا تكون إلا بعد انقضاء العدة الشرعية للمطلقة، وهذا إحراج كبير للمرأة المطلقة التي تعاني من البؤس والفاقة، فالمحاكم لن تفصل بهذه الدعوة بقرار يصبح مبرما قبل انتهاء العدة، والآن مثل هذه الدعوى تستغرق وقتا طويلا للبت فيها، فكيف ستدبر المرأة المطلقة أمرها، هل تؤجل الطعام والشراب والدواء إلى ما بعد الحصول على قرار مبرم يتم تنفيذه لتحصل على التعويض، كما أن اشتراط مدة ثلاث سنوات للنفقة كحد أعلى يجعل المرأة تجلس على قارعة الطريق وتستجدي الناس بعد انتهاء المدة، خاصة إذا كانت لا أهل لها ولا معيل ولا عمل تجيد ممارسته، والكارثة أكبر وأعمق إذا كانت هذه المطلقة كبيرة بالسن، أو لا تتمتع بجمال أخاذ، ففرصتها حينئذ في الزواج والخروج من هذا الوضع شبه مستحيلة، لذلك لابد من إعادة النظر فيما يتعلق بالطلاق التعسفي، وذلك حماية للمرأة وحفاظا على حقوقها وكرامتها. السراح الجميل لكن من يتبع هدى الله سبحانه وتعالى، يعرف حق المعرفة أن الطلاق التعسفي هو مخالف للشرع الإسلامي، لا بل أن أبغض الحلال عند الله هو الطلاق، فكيف إذا تعسف فيه الرجل! وما وصف الطلاق المسموح به في القرآن بالسراح الجميل والتسريح بالإحسان إلا للتحذير من الطلاق التعسفي المبني على المضارة. يقول الشيخ مصطفى السمان في ذلك: لقد قضت حكمة الشارع بأن تكون العصمة بيد الزوج، لكنه كره الطلاق ووضع أمامه أحكاما ومواعظ من شأنها أن تكف الأزواج عن الاستعجال به أو إساءة استعماله. لهذا أمر الشارع الزوج بأن يعاشر زوجته بالمعروف، ودعاه إلى التأني إذا وجد في نفسه كراهة لها، فلا يبادر إلى كلمة الطلاق، فقد تكون الكراهة عارضة ثم تزول. ومن شدة تحذير الشارع من المبادرة إلى الطلاق أن جعل احتمال أن يكون في الزوجة خير كثير كافيا في الاحتفاظ بعصمتها والاستمرار على حسن معاشرتها. ثم إن كان في الزوجة بعض ما يكره فليصبر وليتخير الخيرة، حيث إن عامة مصالح النفوس في مكروهاتها وعامة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها، فكثيرا ما يأتي المكروه بالمحبوب، وكثيرا ما يأتي المحبوب بالمكروه، كيف وقد قال الله عز وجل: وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا (النساء : 19 ). ولقد سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: ما حق المرأة على الزوج؟ قال: تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت. فإذا أساء الرجل استعمال حقه، وتجاوز القدر اللازم للإصلاح كان متعديا، وللزوجة حينئذ أن ترفع أمرها إلى القاضي ليرده عن عدوانه، فإن ثبت لديه عدوان الزوج عزره بما يراه كافيا لزجره عن معاودته لما فعل. ويثبت للزوجة على زوجها عدم الإضرار بها، بأن يعدل في معاملتها، فيعاملها بما يحب أن تعامله به، ويحافظ على حقوقها من غير إفراط ولا تفريط، وإنما وجب عليه العدل وعدم الإضرار باعتبار ما له من السلطان والرياسة، حيث وضعه الشارع في موضع القوامة، وأوجب له على زوجته الطاعة والقرار في البيت ومنحه سلطة التأديب، وهذه أمور لا تستقيم مع إطلاق يده في التصرف، بل يجب تقييدها بالعدل من جانبه، حتى تسير الحياة الزوجية في طريق مستقيم لتحقق الغاية المقصودة منها. ومن هنا جاءت عدة آيات وأحاديث تنبه الزوج إلى أن يعدل ولا يظلم، وينفع ولا يضر، ويرحم ولا يقسو، فيقول جل شأنه: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ويقول: فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولاتمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه. البقرة: 231، ويقول: فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا. ويقول صلى الله عليه وسلم: خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي، وفي خطبة الوداع يقول: ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم. وهكذا يرسم الإسلام طريقه معاملة الأزواج لزوجاتهم، فمن سار في طريقه نجا، ومن حاد عنه تاه وأوقع من حوله في المشقات والأحزان.