الأبعاد الفكرية و السياسية لقبول الآخر

في سياق الحملة الأمريكية على الإسلام والمتعلقة بالناحية الثقافية بشكل خاص .. يتم طرح مفاهيم الحضارة الغربية لحمل الأمة الإسلامية على تبنيها وإبعادها عن مفاهيم وأحكام وأفكار الإسلام ، ويتم طرح هذه المفاهيم في الغالب بأشكال مضللة ليسهل تمريرها على المسلمين .. وأبرز هذه الأشكال : محاولة التوفيق بين مفاهيم الإسلام ومفاهيم الحضارة الغربية ، بل وإلباس المفاهيم الرأسمالية لبوس الإسلام بخبث ودهاء يجعل هذه المفاهيم مقبولة لدى المسلمين ليتم أخذها والاقتناع بها على أنها مفاهيم إسلامية . ومن أبرز هذه المفاهيم : الديمقراطية وحقوق المرأة والطفل وحقوق الإنسان والحريات وقبول الآخر واحترام آراء الآخرين . وسنناقش هنا مفهوم (قبول الآخر) من حيث أصله وارتباطه بعقيدة فصل الدين عن الحياة ومناقضته لعقيدة الإسلام ، ومحاولات تضليل الأمة عن حقيقته ودفعها للأخذ به . أما عن أصل هذا المفهوم وارتباطه بعقيدة فصل الدين عن الحياة .. فإن فلاسفة أوروبا ومفكريها وفي أثناء صراعهم مع القياصرة والملوك ورجال الدين قد اختار بعضهم ـ وهم مؤسسو المبدأ الرأسمالي ـ الحل الوسط مع الكنيسة ؛ بأن تركوا لها السلطة الروحية (الدينية) وأعطوا السلطة الزمنية للشعب ، وأطلقوا الحريات : حرية الرأي وحرية المعتقد وحرية التملك والحرية الشخصية .. وقد ارتبط مفهوم قبول الآخر واحترام آراء الآخرين بحرية المعتقد وحرية الرأي ، وذلك على أساس فصل الدين عن الحياة .. وبالتالي فصله عن الدولة ؛ فاعتبروا أن للإنسان الحرية في اختيار النظام الذي يريد أن يحكم به وكذلك اختيار من يحكمه ؛ لذلك اتخذوا النظام الديمقراطي ليقوم على حماية حريات الأفراد .. ومنها حريتهم في تبني ما يشاءون من معتقدات وآراء دون وصاية أو تدخل من أحد ؛ وذلك كعلاج لتعدد الآراء والمعتقدات في مجتمعاتهم .. أي أن لكل فرد من أفراد المجتمع رأيه ومعتقده الخاص ، ولا يحق لأحد بأن يفرض رأيه ومعتقده على الآخرين .. بغض النظر عن مدى صواب أو خطأ هذا الرأي أو ذلك المعتقد .. وبالتالي فإن الرأي أو المعتقد ـ حسب رأيهم ـ هو أمر شخصي ؛ فلا يحق لأي كان ومهما كانت سلطته أن يفرض رأيه أو معتقده على الآخرين بدعوى أنه رأي الدين أو أنه يرى أن رأيه هو الصواب ، فهم يرون أن المسألة هنا هي من باب وجهات النظر ، فكل فرد من أفراد المجتمع يرى الشيء أو المسألة من وجهة نظره ، وهذا لا يعني بالضرورة صواب وجهة نظره وخطأ وجهات نظر الآخرين ؛ وبالتالي فلكل وجهة نظره وله الحق في تبني آرائه ومعتقداته الخاصة التي هي في نظره صواب ، وله الحق في التعبير عنها بالوسائل التي كفلها له النظام الديمقراطي على قاعدة اقتناعه بآرائه ومعتقداته واحترامه لآراء ومعتقدات الآخرين التي هي صواب في حقهم . أما من مناقضة هذا المفهوم للعقيدة الإسلامية .. فإن العقيدة التي انبثق عنها هذا المفهوم تناقض عقيدة (لا اله إلا الله .. محمد رسول الله) من حيث أنها تفصل الدين عن الحياة ؛ أي أنها تنفي أي صلة لله - سبحانه - بالحياة .. وبالتالي رفض أوامر الله ونواهيه .. وتعطي هذه العقيدة سلطة التشريع للإنسان ؛ فهي عقيدة كفر بالله وبشريعته ونفي لعلاقة الإنسان بخالقه .. فالإنسان - في رأيهم - حر في وضع ما يشاء من تشريعات و أحكام تنظم شئون حياته ، و هو حر أيضا في اعتقاد أي معتقد وفي تبني أي رأي دون تدخل من الله - سبحانه وتعالى - .. وهذا فيه مناقضة صريحة للعقيدة الإسلامية ؛ حيث إن الرأي أو الاعتقاد يجب أن يؤخذ عن دليل ؛ أي يجب أن يبحث إن كان الرأي أو المعتقد صوابا أو خطأ .. ولا يصح أخذ الرأي أو الاعتقاد دون مناقشة صحته من خطئه ، فلا عبرة لأي رأي أو معتقد إن كان خطأ مهما كثر عدد معتنقيه .. أما القول بأن لكل رأيه أو وجهة نظره فهو خطأ بحت ، أو القول أن لكل زاويته الخاصة بالتظر للمسائل والأشياء فهو خطأ أيضا لأن الحق واحد لا يتعدد وإن تعددت وجهات النظر واختلفت فهو راجع إلى قصور ومحدودية في قدرات الإنسان ؛ لذلك على الإنسان أن يمعن النظر ويواصل البحث والتتبع ، وأن يبذل جهده في النظر للمسائل والأشياء من جميع الزوايا حتى يتبين الحق له من الباطل؛ وعليه فالحق أحق أن يتبع .. وبعد التوصل إلى الرأي الصواب والمعتقد الحق يجب حمل الناس على الأخذ به .. لا لأنه مجرد رأي لصاحبه ، بل لأنه صواب وحق .. ويجب أن يراعي صاحب الرأي النزوع إلى الكمال ، فإن تبين له قصور أو خطأ في رأيه فعليه أن يعيد النظر والبحث والاستقراء حتى ينقي رأيه من أي زلل أو خطأ . هذا فضلا عن أن الدول الغربية - وفي مقدمتها أمريكا - وإن كانت تدعو لهذا المفهوم وتجبر الناس على الأخذ به ، إلا أنها تخالفه في تعاملها مع الآخرين في داخل بلدانها وخارجها ، أما في الخارج فهي لاتقبل بمن يحمل رأيا أو معتقدا يخالف عقيدة ومفاهيم حضارتها .. وخير مثال على ذلك ما تشنه من حرب ضروس على الإسلام والمسلمين ؛ وذلك بسبب وجهة نظرهم في الحياة وبسبب ما يحملون من عقائد وآراء ؛ فهي لا تقبل المسلم إلا إذا وافق ما لديها من آراء ومعتقدات .. فدعوتها بقبول الآخر ما هي إلا أكذوبة لا تطبق إلا على المسلمين لإبعادهم عن دينهم ولإبعاد الإسلام عن الدولة والمجتمع .. وكذلك داخل مجتمعاتهم . فبعد أن تخلصت الشعوب الأوروبية من تسلط الكنيسة ورجالها وقعت تحت سلطة المال ورجاله (الرأسماليون) ، والفرق هنا أن الحال الأول كان واضحا لا لبس فيه ، وكان الاعتماد على إثارة المشاعر الدينية لدى الأوروبيين واحتكار تفسير كتابهم المقدس لإخضاع الشعوب باسم الدين .. أما الآن فإن السلطة في الحقيقة بيد الرأسماليين ولكن بشكل خفي .. مستندين في ذلك على صناعة الرأي العام بوساطة الآلة الإعلامية بحيث صدق الشعب أنه هو الحاكم الفعلي من خلال صناديق الاقتراع ، و أن دساتير تلك الدول تضمن حرية الرأي وحرية الاعتقاد وتوفر حق التعبير عن ذلك الرأي .. وهي في الواقع أعطت الشعوب حرية الحديث .. و حتى الصراخ من خلال الوسائل التي وفرها النظام الديمقراطي فقط .. والتي صممت بيد الرأسماليين وحسب أهوائهم ، أما ما ينفذ على أرض الواقع فهو ما يريده أصحاب المال والنفوذ ليس غير .. مع بذل الجهود الجبارة واستخدام كل أساليب الكذب والخداع لتصوير مصالحهم على أنها تمثل إرادة الشعب . وبقيت مسألة تضليل المسلمين عن حقيقة هذا المفهوم .. فإن الغرب - بقيادة الولايات المتحدة - يستخدم كل الأدوات الممكنة لحمل المسلمين على تبني هذا المفهوم ، وهي ترتكز بالأساس على وسائل الإعلام ومناهج التعليم .. وما الفضائيات العربية - مثل (الجزيرة) و(العربية) وغيرهما - إلا مثال على ذلك ، وما خطر هذه الفضائيات إلا لأنها توفر المنابر للمطبوعين بالثقافة الغربية من علمانيين - سواء بلحية أو بدونها - لينفثوا سمومهم في عقول أبناء الأمة ، ويحرفوهم عن الفهم الصحيح للإسلام وينشروا مفاهيم الحضارة الغربية على أنها مفاهيم إسلامية أو أنها لا تتعارض ومفاهيم الإسلام .. ولعل أخطر ما صدر عن هؤلاء : الخلط المتعمد بين التعامل مع المسلم والتعامل مع الكافر ؛ حيث إن الإسلام بين لنا كيفية التعامل مع المسلم ، وذلك باعتبار رأيه رأيا إسلاميا إن كان هذا الرأي يستند إلى دليل من القرأن أو السنة المطهرة ؛ إذ أن الإسلام فيه عقائد وأحكام شرعية .. فالعقائد لا تؤخذ إلا عن دليل قاطع وبرهان ساطع ؛ فلا مجال لتعدد الآراء بشأنها ، فعقيدة الإسلام واحدة ، وأي خروج عنها يعتبر كفرا .. فلا احترام وقبول لمن يعتقد بنقص القرآن أو من يشكك بآية من آياته أو من يشك بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - .. أما الأحكام : - فمنها ما هو قطعي كقوله - تعالى - : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وكقوله سبحانه - : وأحل الله البيع وحرم الربا ، وكقوله السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ... ، وكقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم - : (( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما )) .. فهذه الأحكام قطعية في الدلالة ولا تقبل الاجتهاد .. ولا مجال لتعدد الآراء بشأنها ، ومن أنكرها خرج عن ملة الإسلام ويعامل معاملة المرتد عن دينه .. - ومنها ما هو ظني الدلالة ؛ أي أن النص الشرعي المستنبطه منه يحتمل أكثر من فهم ، ومثال ذلك ما حدث مع الصحابة حينما أمرهم الرسول بقوله : (( لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة )) ، فمنهم من استند إلى أن أمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - لايخالف أمر ربه بأن الصلاة واجبة في وقتها .. ففهموا أمر الرسول على أنه للاستعجال ، وفريق آخر أخذ الأمر كما هو لأن الرسول - عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى .. واختلف الفريقان حتى جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأقرالفريقين لأن كلامه يحتمل الفهمين ، ومما يؤكد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر .. علما بأن الاجتهاد له أصوله وقواعده وضوابطه ؛ فلا يصح لأي كان أن يجتهد إلا بالتزام هذه الأصول والقواعد والضوابط ، وهنا يقع الاختلاف في الرأي بين العلماء .. وبالتالي بين مقلديهم ، وقد روي عن بعض العلماء قولهم : رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب .. وفي هذا المجال ينظر إن كان الرأي استنبط باجتهاد صحيح ويحتمله النص فهو رأي إسلامي .. ولو كان لدى صاحبه شبهة دليل ، وإن كان غير ذلك فلا يقبل . ولا بد هنا من الإشارة إلى أن الخليفة يعمد إلى تبني بعض الأحكام التي يؤدي الاختلاف فيها إلى تفرق الأمة ؛ فهو يتبنى الرأي الراجح لديه حفاظا على وحدة الأمة ، ولا يتبنى في العقائد و العبادات حتى لا تقع الأمة في الحرج .. أما الكافر من أهل الكتاب وغيرهم فهو منكر لما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - أي أنه يعتقد عقيدة باطلة .. وكل ما انبثق عنها أو بني عليها فهو باطل ، ومع ذلك فنحن مأمورون بمحاورتهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن لقوله - تعالى ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن .. فيجب علينا دعوتهم لدين الحق بالكلام اللين والبرهان العقلي لإيصالهم للحق ، ويقول - تعالى - : قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .. فلا يرد هنا ما يقوم به بعض من ينتسبون لهذه الأمة من حوار مع أهل الكفر و الضلال تحت مظلة (حوار الأديان) ؛ فلا حوار مع أهل الباطل إلا بتبليغهم الإسلام وحملهم على الإيمان به .. هذا هو أساس تعاملنا - نحن المسلمين - مع الكفار بتبليغهم دعوة الإسلام بشكل مفهم ، فإن أبوا الإسلام فالجزية ، وإن أبوا فالقتال لإزالة الحواجز المادية التي تحول ودعوة الناس إلى الإسلام ، وهذا يكون بالأساس من خلال دولة الإسلام . إن أمريكا تعمد إلى الحط من شأن الإسلام في نفوس أهله ؛ وذلك بجعل الإسلام رأيا من الآراء ومعتقدا من المعتقدات .. لا فرق بينه وبين البوذية أو الهندوسيه أو النصرانية أو من ينكر وجود الخالق المدبر أو من يضع الإنسان مكان الله فيعطيه حق التشريع .. فالإسلام في رأيهم دين من الأديان لا يميزه عنها شيء ، و إن اعتقد المسلمون أن دينهم هو دين الحق وأنه رسالة الله لعباده فهو رأي المسلمين ليس غير .. وهي وجهة نظرهم التي لا يحق لهم أن يفرضوها على غيرهم من البشر كما يزعمون .. وما الإساءة للرسول الكريم وما حصل مؤخرا من إساءة البابا للإسلام و المسلمين والإساءات المتكررة في وسائل الإعلام الغربية المفتعلة من قبل أمريكا إلا لترسيخ هذا المفهوم في التعامل بين أتباع المعتقدات المختلفة .. ويؤكد ذلك ردة الفعل الأمريكية على إثر كل حادثة في دعوتها لاحترام أراء الأخرين ، وألا تؤدي حرية التعبير إلى إقصاء الآخر والتعدي على مقدساته .. وهي كذلك تعتمد على وسائل الإعلام والمناهج المدرسية وعلى عملائها في بلاد الإسلام للترويج لهذا المفهوم ، وبالتالي إيجاد رأي عام بين المسلمين لتقبل الآخرين واحترام آرائهم حتى لو ناقضت عقيدة الإسلام وخالفت أحكامه ؛ لتتمكن أمريكا لا قدر الله بعد ذلك من إبعاد الإسلام عن واقع الحياة وضمان عدم عودته ، وبالتالي حمل المسلمين على تبني وجهة نظرها في الحياة والعيش بحسبها ؛ مما يؤمن لأمريكا السيطرة على بلاد الإسلام .. ولأمد بعيد . إن الخلط بين مسألة التعامل بين المسلمين وتعامل المسلمين مع الكفار والملحدين هو تضليل وتزييف للحقائق تقوم به أمريكا من خلال أعوانها ممن يدعون أنهم من أبناء هذه الأمة .. فإن حصل وتقبلت الأمة هذا المفهوم فإن كيانها الفكري مهدد بالزوال ؛ أي أن الأمة تكون قد شارفت على الفناء لأن الأمم لا تحيا إلا بهويتها ، وهوية هذه الأمة هي (الإسلام) ، وبزواله من واقع حياتها - سواء بتركه أو بفهمه بشكل خاطىء - تكون هذه الأمة قد انتهت وزالت ؛ وهو ما يريده أعداؤها لها لتبقى السيادة على العالم للمبدأ الرأسمالي وللحضارة الغربية .. وذلك بزوال الخطر الحقيقي على حضارتهم .. ألا وهو (خطر الإسلام) الذي يؤرقهم ويهدد عروشهم حتى وهو بدون دولة تحمله .. فكيف يمكن أن يكون الحال لو كانت دولة الإسلام قائمة تحمل رسالة الإسلام - رسالة النور والهداية - إلى العالم أجمع ؟! يقول - تعالى - : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون .. ويقول - تعالى - : إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون صدق الله العظيم .