تداعيات السكري طويل الأمد

دائما ما يتكرر هذا التساؤل بين مرضى السكري: لماذا أصاب بالالتهابات المتكررة أو الإنتانات المتكررة عامة والمجاري البولية خاصة؟. وسرعان ما تأتي الإجابة: بسبب إصابتك بالسكري. ويحمل المريض أو المريضة هذا التساؤل ليطرحه على طبيبه المعالج: ما الذي يسببه السكري ليجعلني أشكو من هذه المشكلة المتكررة. وللتعرف على إجابة هذا التساؤل لابد لنا من البحث عن تلك التداعيات التي يسببها داء السكري عندما تغزو تلك الكائنات الدقيقة الجهاز البولي وتبتدئ في التكاثر، يبدأ الجسم بالمرور عبر سلسلة من ردود الفعل تهدف إلى التخلص من تلك الكائنات الوافدة. وتمر تلك التفاعلات عبر طريقين يلتقيان في محصلة واحدة: الطريق العصبي: تحفيز الجهاز السمبثاوي، والطريق الهرموني: زيادة إفراز بعض الهرمونات مثل هرمون الجلوكاكون لتكون المحصلة الأخيرة توفير المدخلات والمناخ اللازم للتعامل مع هذه الكائنات الوافدة، مثل رفع مستوى السكر بالدم لتوفير الطاقة اللازمة، وذلك بتحفيز الكبد لتصنيع مزيد من الجلوكوز من المصادر غير التقليدية مثل الأحماض الأمينية أو تقليل فعالية مستقبلات الإنسولين وبالتالي تقليل الوظيفة الفسيولوجية للإنسولين أو تحييدها. ولكن ماذا يحدث في الأحوال الطبيعية؟ تشكل خلايا الدم البيضاء أحد أركان الجهاز المناعي المهمة في الدفاع. وتشكل الخلايا متعادلة الصبغة أغلبية تلك الخلايا. تبدأ تلك الخلايا في التوافد إلى مكان الإنتان، وهو هنا المجاري البولية، وذلك من خلال خاصية الجذب الكيميائي، ثم الالتصاق بالخلايا الطلائية المبطنة لموقع الإنتان ـ وكأنها معركة حتى الموت ـ ثم تقوم تلك الخلايا بالتهام تلك الكائنات بوساطة عملية البلعمة، ثم تقوم تلك الخلايا بتدمير تلك الكائنات المبتلعة بتسليط بعض المواد المحللة والمبيدة لها (يتم ذلك داخل الخلايا). تعتمد الكثير من التفاعلات المنتجة للطاقة على الإنسولين مثل عملية فسفرة الجلوكوز وعملية تكوين الجلايكوجين ـ يخزن الجلوكوز على صورة حبيبات جلايكوجين ـ الذي يستعمل كمصدر للجلوكوز عند الحاجة. وماذا يحدث لدى مرضى السكري؟ على الرغم من حرية انتقال الجلوكوز إلى داخل الخلايا متعادلة الصبغة، إلا أنه يصبح عديم الفائدة في ظل انعدام الإنسولين (مرضى السكري من النوع الأول)، أو نقص الإنسولين كما في مرضى السكري من النوع الثاني، وبالتالي تقل أو تنعدم الطاقة اللازمة لتلك الخلايا للتوافد على موقع الإنتان من خلال خاصية الجذب الكيميائي، وتنعدم المقدرة على الالتصاق بمكان الحدث، وقد تتأثر مقدرة تلك الخلايا على إفراز تلك المواد المحللة على تلك الكائنات المبتلعة، ولكن مقدرة الخلايا على ابتلاع الكائنات لا تتأثر. أما مقدرة الجسم على إنتاج البروتينات المناعية فتبقى كما هي دون تأثر، ولكن إذا تفاقم الاعتلال الكلوي وفقدت الكلى المقدرة على الاحتفاظ بتلك البروتينات تأثر الجسم والجهاز المناعي بتناقصها. ولكن كيف تتوفر البيئة المناسبة للإنتان البولي لدى مرضى السكري؟ لعل أولى الخطوات هي تلوث البوابة الأولى للمجاري البولية (المبال أو الإحليل البولي) بتلك الكائنات وبخاصة بعض أنواع البكتيريا العصوية سالبة الصبغة (صبغة جرام)، وتبتدئ في الالتصاق بالأغشية المبطنة لذلك المجرى ثم التكاثر لتصل إلى المثانة، يساعدها في ذلك بعض العوامل مثل: ـ قصر المبال أو الإحليل (السيدات) واتساعهما: نظرا للصفة التشريحية للمبال في السيدات فإن ذلك يجعلهن أكثر عرضة للإنتانات البولية، كما أن عدم وجود البروستات في السيدات يحرمهن من إفرازات البروستات القاتلة للبكتيريا. ـ تضخم البروستات الحميد أو الخبيث وما يسببه من تضييق أو انسداد للمجاري البولية، وبالتالي ركود البول وإعطاء تلك الكائنات الفرصة للتكاثر. ـ إدخال الآلات الطبية مثل القسطرة البولية يساعد على توصيل تلك الكائنات إلى أعماق الجهاز البولي. ـ اعتلال الأعصاب المغذية للمثانة كإحدى مضاعفات داء السكري العصبية وما يتسبب عنها من عدم الإفراغ الكامل للمثانة وما يسبب ركود البول من تدمير لتلك الطبقة المخاطية الرقيقة التي تحمي وتمنع تلك الكائنات من الالتصاق بالأغشية الطلائية المبطنة للمثانة. ـ وجود بعض حصيات الكلى أو المثانة وما تسببه من تجريح للأنسجة يجعلها عرضة لتلك الكائنات. ـ يخطئ العديد من مرضى داء السكري في استعمال المضادات الحيوية وبجرعات قليلة ولمدة غير كافية وهو ما يتسبب في جعل تلك الكائنات تتكيف مع تلك المضادات الحيوية ولا تجدي معها نفعا بعد ذلك. ـ الاتصال الجنسي غير الطبيعي (الاتصال الشرجي)، أو ممارسة الاتصال الجنسي الطبيعي والمثانة ممتلئة وهو ما يؤدي إلى بعض التهتكات الصغيرة ولكنها كافية لتسمح لتلك الكائنات بالالتصاق بأنسجة المثانة ثم التكاثر فيها. ـ اعتلالات الكلى الوظيفية كأحد مضاعفات السكري (المراحل المتقدمة) وما ينتج عن ذلك من قلة إدرار البول. لعل في هذه الحقائق ما يجيب عن ذلك التساؤل لدى العديد من مرضى السكري، ويجعلهم يبحثون عن إجابة لسؤال آخر وهو كيفية الوقاية من تلك المشكلة. وهذا ما أتمنى أن يشغل بال مرضى السكري، فلقد انتقل مفهوم مكافحة السكري من العلاج إلى الوقاية.