دعـوة إلى تعليـم ســــــماحة الإسـلام

قول رسول الله ص: بعثت بحنيفية سمحة. والملة الحنيفية هي المستقيمة التي لا عوج فيها من توحيد الله تبارك وتعالى، ولا انحراف عن نهجه الذي رضيه لعباده، ولا ميل فيها إلى يمين، أو يسار تحقيقا لمصالح ذوي المصالح، أو أهواء أهل الأهواء. ولا شك في أن وصف الحنيفية بمعنى الاستقامة يصدق أكثر ما يصدق على ملة الإسلام، وشريعته التي صانها الله من التحريف، والتبديل الذي أصاب ملل من قبلنا من الأمم، وشرائع أنبيائهم، وكتب الله (تبارك اسمه) المنزلة عليهم. والملة السمحة، هي الملة التي تضع اليسر بين الناس موضعه، ويسمح شرعها لأبنائها بالعيش متحابين متناصحين في غير تعقيد، ولا خوف، ولا رهبة تصيب الناصح المخلص، وفي غير كبر ولا استعلاء يصيب المنصوح الذي يطلب الحق وينزل عنده. وليس أدل على هذا المعنى من معاني السماحة من خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قبله من أصحابه في مختلف المواقف، مما يهاب أحدنا اليوم أن يفكر فيه، فضلا عن أن يقوله. ومما يجب أن تتوجه العناية إليه في تعليم أبنائنا، وبناتنا هذا المعنى الجليل الذي يتجلى بلا لبس ولا غموض في عشرات المواضع من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم. ذلك أن الأجيال الناشئة مبتلاة بمن يصور لها سلوك المسلم كما لو كان سلوك شخص يتجهم أكثر مما يبتسم، ويغضب أكثر مما يرضى، ويفرض رأيه على الآخرين أكثر مما يستمع إلى آرائهم. وكثير من الشباب يقلد هؤلاء تقليدا غير بصير، فإذا أردت أن تبين له خطأ هذا المسلك، بالقياس على سيرة الرسول (صلوات الله وسلامه عليه) رد عليك بقوله: أين نحن من رسول الله؟ وهل زمننا كزمنه؟ وهل الناس الذين نعاملهم كأصحابه؟ وهذا الكلام يجعل صاحبه على خطر عظيم؛ لأن الأسوة الواجب على كل مسلم التأسي بها في خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدها زمان، ولا يمنعها تغير أخلاق الناس، بل هي المعيار الذي يقاس به الخطأ من الصواب، والمقبول من المردود، والعكس لا يصح. وفي الصحيح من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قبل من أصحابه مراجعتهم إياه في صغير الأمور وكبيرها، ونزل على الصواب من آرائهم. ففي غزوة بدر رأى الحباب بن المنذر (رضي الله عنه) أن الموضع الذي نزله جيش المسلمين غير ملائم، فناقش النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، واقترح موضعا آخر، وقبل النبي (عليه السلام) اقتراحه، وانتقل الجيش إلى الموضع الثاني، وكان من قوله للنبي (عليه الصلاة والسلام) لما أخبره أن النزول لم يكن بوحي، وإنما كان برأيه: فليس هذا برأي أي أن الرأي الذي رآه النبي في تلك المسألة لم يكن هو الأصح أو الأولى.. وسمع النبي صلى الله عليه وسلم منه، بل ونزل على مشورته. وفي غزوة أحد نزل النبي صلى الله عليه وسلم على رأي شباب الصحابة، وخرج بالجيش من المدينة لملاقاة مشركي قريش.. وكان ما كان في الموقعة، فنزل القرآن يثبت منهج الشورى، وسماحة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه: ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله. وجاء النبي (عليه الصلاة والسلام) رجل يستأديه دينا كان على النبي له، وأغلظ القول وأساءه حتى قال: إنكم بني عبدالمطلب قوم مطل - أي تماطلون في أداء الحقوق التي عليكم إلى أصحابها - فلما هم بعض الصحابة بتأديبه، أبى ذلك رسول الله (عليه الصلاة والسلام) وقال للصحابي: كان غير ذلك أولى بك: أن تأمرني بحق الأداء، وتأمره بحسن الطلب. وشدد أعرابي في طلب بعير ردا لبعيره الذي كان أقرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له النبي قولا لينا، وأمر بأن يعطى له بعير، فقيل له: يا رسول الله لا نجد إلا سنا أحسن من سنه، فأمرهم بإعطائه إياه - برغم التفاوت في السن الذي يرتب تفاوتا في القيمة - وقال لأصحابه: إن خيركم أحسنكم أداء. وفي علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بأزواجه مواقف لا تحصى تدل على قبوله صلى الله عليه وسلم اليسر والرفق في كل أمر، وإعراضه عن العسر والغلظة في كل أمر، بل لقد قال صلى الله عليه وسلم: إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وقال: إن الرفق لم يكن في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه. وفي الصحيح من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه كان يمزح، ولا يقول إلا حقا، وأنه كان يسمع الشعر، ويحب الحسن منه، وأنه كان يداعب الصغار، ويحملهم ويقبلهم، بل كان يحمل بعض أحفاده وهو في الصلاة، ونزل مرة من على المنبر ليحمل حسنا وحسينا، إذ رآهما يدخلان المسجد ويعثران في ثوبيهما، وقال: لم أملك إذ رأيتهما يعثران في ثوبيهما أن نزلت وحملتهما. وحقيق بنا أن نلفت نظر البنات والأبناء إلى هذه الجوانب المضيئة من سيرة نبينا، الدالة على سماحة ديننا، فنحبب الناشئة في التأسي بها، ونغرس في نفوسهم مصلا واقيا من الغلو المذموم، وما يقود إليه وينتهي به من شرور لا تحد، ومصائب تجل عن العد.