ذاكرة العالم الصلبة

ستيف جوبز كان يفكر بجهاز الأيبود قبل ظهوره عام 2001.. كان يتصور جهازاً يتضمن ذاكرة صغيرة تحمل آلاف الأغاني والتسجيلات الصوتية "بدل تخزينها على أقراص كثيرة وثقيلة ويصعب حملها".. غير أن الفكرة تأخرت بسبب الحجم غير المقبول للأقراص الصلبة حتى سمع أن شركة توشيبا اليابانية ابتكرت قرصاً ثابتاً بحجم البسكويت فأيقن أن الوقت حان لتطبيق الفكرة!.

ومن المعروف أن الأقراص الصلبة -وحدة تخزين البيانات الرئيسة في الحاسب والأجهزة الذكية- اخترعت منذ خمسينيات القرن الماضي. كانت عبارة عن أقراص كبيرة دوارة قطرها إلى 20 بوصة تتسع للقليل من الميجابياتات.. توصف بالصلبة بسبب ثقلها من جهة، وتمييزها عن الأقراص البلاستيكية المرنة من جهة أخرى. وهي تصنع من قرص معدني -دوار أو ثابت- توضع عليه مادة مغناطيسية تستخدم في حفظ البيانات هي نفسها التي توضع فوق الأقراص المرنة وشرائط الكاسيت القديمة.

ورغم أن الفكرة قديمة، تم تحسينها جيلاً بعد جيل حتى وصلنا لوسائط تخزين يمكن وضعها في هواتفنا الصغيرة.. وحتى وقت ستيف جوبز كانت وسائط التخزين المغناطيسية صغيرة نسبياً.. ولكن انفجار المحتوى المعرفي والفني الذي رافق الأجهزة الذكية -والتقلص المتواصل في أحجام الأجهزة نفسها- جعل المهندسون يفكرون بابتكار وسائل مختلفة تماماً في تخزين البيانات.

واليوم توجد -بجانب الطريقة المغناطيسية القديمة- تجارب على تخزين البيانات على حوامض أمينية تحمل مساحات تخزينية هائلة -كما يحمل حمض الــDNA قدراً هائلاً من صفاتك الوراثية-.. كما بدأنا نسمع عن ظهور أقراص تخزين ذرية -تعمل على مستوى الذرة- قادرة على تخزين كافة بيانات العالم.. وكانت شركة IBM العملاقة قد أجرت بالفعل تجارب ناجحة على تخزين البيانات على ذرة الهوليوم السائل توازي ما يحمله هاتفك الجوال.. وكلتا الطريقتين تعني مستقبلاً إمكانية صنع أقراص صلبة بحجم بطاقة ائتمان يمكنها تخزين كل مكتبات ومعارف العالم كله، كما تعني إمكانية غرس ذاكرة اصطناعية بحجم الأظفر -تحت جلد جمجمة- تحمل كل المعارف والخبرات واللغات التي يحتاجها الإنسان.

هذامن جانب، ومن جانب آخر، لا ننسى أن الإنترنت واليوتيوب وكافة المواقع الإلكترونية أصبحت مخزناً للمعارف والعلوم والذكريات البشرية، تحولت -دون أن يقصد أحد- إلى أرشيف يخلد صورنا وذكرياتنا وإنجازاتنا وما تخطه أيدينا.. بعد خمسين عاماً من وفاتك سيتمكن أحفادك من رؤية صورك وقراءة رسائلك الإلكترونية.. بعد مئة عام لن يتذكرك أحـد ولكن بعض المهتمين سيصادفون أرشيفك الافتراضي ويتعرفون على كل صغيرة وكبيرة في حياتك.. وحتى بعد ألف عام سيظل أرشيفك موجوداً ولكنك ستصبح مجهولاً -مثل ديناصور متحجر- كون أرشيفك الإلكتروني سيتراجع ويصبح أسفل طبقات معرفية يصعب نبشها.. الاستثناء الوحيد هي أن يعثر أحدهم بالصدفة على قرصك الخاص فيحاول فتحه ليتعرف على مظاهر التخلف التي كنت تعيشها اليوم.

بقلم: فهد عامر الأحمدي - الرياض