حيث تتحدث الأحافير

متحف التاريخ الطبيعي في نيويورك من أعظم المتاحف المتخصصة في الأحافير، وأكثرها نشاطا في توثيق سجل الحياة على الأرض.. زرته مع أسرتي أخيرا (وتحديدا في أغسطس 2018)، وتوليت بنفسي شرح أقسامه المختلفة لهم.. أعرفه جيدا؛ ليس فقط لأنني قرأت كثيرا عن الاكتشافات والدراسات التي قام بها (للبحث عن سر الحياة وتاريخ الخلق)؛ بل لأنني سبق أن زرته مرتين عامي 1996 و1999.

لم يخب ظني أبدا فيما رأيت، لا من حيث ضخامة المتحف، ولا من حيث الكم الهائل من القاعات والمعروضات التي يضمها. أذكر في أول زيارة لي، وأثناء تجولي في القاعة الخاصة بالديناصورات، لاحظت أن الهياكل المعروضة غير مكتملة (وإن كانت مكملة بقوالب بلاستيكية وجبائر خاصة)، فسألت المشرفة على القاعة: كيف أمكنت معرفة شكل الديناصور كاملا، في حين أن العظام المكتشفة لا تتجاوز 5 أو 10 في المئة من كامل الهيكل؟!

ويبدو أن أحدا لم يسألها منذ فترة طويلة؛ حيث "انفلتت" في محاضرة حقيقية عن الديناصورات وأنواعها وطرق تركيبها؛ لدرجة أن أم حسام تركتنا وجلست على كرسي مجاور، ولا أخفي عليكم لم أعد أتذكر كثيرا مما قالت، إلا أن هناك جملة ما زالت عالقة في رأسي أوضحت لي كل شيء، فقد قالت: من خلال كاربوريتر السيارة يمكن للميكانيكي تخمين حجمها وموديلها وقوة محركها.

وهذا التمثيل لا يبدو فقط منطقيا ومعقولا، بل يناسب العقول الرجالية التي تفهم في السيارات أكثر من الديناصورات، فـمن المعروف أنه من خلال كاربوريتر السيارة يمكن للميكانيكي الخبير معرفة قوة المكينة ونوع السيارة وتاريخ صنعها.. وعالم الأحافير بدوره يمكنه القيام بعمل مشابه مع الديناصورات والأحياء المنقرضة، وذلك بتخمين حجمها وشكلها ونوعها، من خلال عظمة الساق أو الذراع أو حتى الأنياب.

وإذا تركنا الميكانيكا وانتقلنا إلى علم التشريح، نكتشف أن عظمة الكتف تؤدي دورا نسبيا في عمل الهيكل العظمي، وتتحمل وزنا وجهدا معلوما عند القيام بحركات معينة، وعلى هذا الأساس يمكن للعالم الخبير استنتاج نسـب بقية الهيكل، من خلال مقارنتها بعظمة الكتف، وطريقة اتصال الأوتار والمفاصل الأخرى بها، كما يمكن بمقارنة التركيب الداخلي للحيوانات الموجودة حاليا بتلك المنقرضة معرفة نسبة اللحم والجلد الذي يغطي الهيكل، وبالتالي بناء نموذج كامل للحيوان المندثر.

وكل هذا يعني أن هياكل المخلوقات المنقرضة (الموجودة في متاحف العالم) إما مختلطة وإما مصطنعة. الشكل الذي تراه (كاملا) يعتمد على استنتاجات تأسست على جزء صغير من المخلوق الحقيقي.. قد يكون الفك أو الحوض أو عظمة الكتف.

بقلم/ فهد عامر الأحمدي - الرياض