الرجل الذي كور الأرض

عاش الإنسان طوال حياته معتقداً أن يعيش فوق أرض مسطحة تدور حولها النجوم.. لم يبدأ بالتفكير بكروية الأرض إلا في عهد الفلاسفة الإغريق الذين ناقشوا احتمال كرويتها ودورانها حول نفسها (كحل وحيد لتفسير مظاهر كونية وجغرافية كثيرة مثل تعاقب الليل والنهار وتحرك النجوم في قبة السماء).

لم يحسم الأمر بشكل نهائي إلا العام 1519 حين عرض ماجيلان على ملك أسبانيا تنظيم رحلة بحرية للدوران حول كوكب الأرض.. وماجيلان بحار برتغالي ولد في سبروزا العام 1480 وخاض معارك عديدة باسم ملك البرتغال في الهند واندونيسيا وجزر الملايو.. غير أن علاقته بملك البرتغال ساءت لدرجة رفض دعواته المتكررة باكتشاف مناطق أكثر بعد في الشرق (في حال ذهب إليها من الغرب).. وحين يئس من تلبية طلبه عرض مشروعه على ملك أسبانيا كارلوس السادس وأغراه بتسجيل كافة الجزر والأراضي التي سيكتشفها باسمه (وهو ما أثار عليه غضب ملك البرتغال)..

وكان الأسبان قد حاولوا قبل ذلك اكتشاف طريق جديدة نحو الهند فـتبنوا رحلة كولومبس (الإيطالي) التي انطلقت باتجاة الغرب فـاكتشف أميركا دون قصد.. قرروا المحاولة مرة أخرى من خلال مشروع ماجيلان الذي تعهد أيضاً بدعوة سكان الأراضي الجديدة للديانة المسيحية.. وهكذا مول الملك الأسباني الرحلة وقدم لماجيلان خمس سفن جديدة وجهزها بمؤن تكفي البحارة لعامين.. وفي العام 1519 انطلقت السفن (بعد 27 سنة من اكتشاف كولومبس لأميركا) من البرتغال باتجاه الغرب.. قطعت المحيط الأطلسي، ثم تجاوزت الأميركيتين، ثم دخلت المحيط الهادي عبر مضيق دعي لاحقاً (مضيق ماجيلان)..

حاول ماجيلان تجنب البرازيل (لأنها ملك للبرتغال) ولكنه أنشأ مستوطنات تابعة لأسبانيا في معظم أميركا الجنوبية - وهذا سر تحدثها اليوم باللغة الأسبانية..

بعد ذلك توغل غرباً في المحيط الهادئ (وهو من أطلق عليه هذا الاسم) ووصل في فبراير 1521 إلى جزيرة غـوام وأعلن ملكيتهما لأسبانيا (وإن أصبحت اليوم ملكاً لأميركا التي أنشأت فيها قاعدة بحرية وجوية كبيرة)..

وفي 16 مارس وصل إلى جزيرة سيبو الفلبينية وعقد مع ملكها هومابون معاهدة ولاء لأسبانيا وأقنعه باعتناق المسيحية.. وافق الملك هومابون (الذي كان يعتنق الوثنية) بشرط مساعدته ضد ملك جزيرة ماكتان المسلم لابولابو.. وبالفعل خاض ماجيلان في 17 أبريل 1521 حرباً ضد ملك ماكتان، ولكنه قـتل في المعركة على يد أمير مسلم من أقرباء لابولابو.. خسر البرتغاليون معظم رجالهم فتراجع من بقي منهم واضطروا لإحراق سفينة متضرره تدعى كونسيبسن.. وفي وقت لاحق غرقت سفينة تدعى ترينيداد فاضطر القائد الجديد خوان سباستيان إلى التخلي عن بعض البحارة في اندونيسيا بسبب الإصابة والمرض.. لم تبق من الرحلة كلها سوى سفينة صغيرة تدعى فيكتوريا عادت إلى أسبانيا بتاريخ 6 سبتمبر 1522 وعلى متنها سبعة عشر رجـلاً فقط (من أصل 270 رجلاً بدأت بهم الرحلة)!

ورغم وفاة ماجيلان في منتصف الطريق؛ كان لرحلته هـذه آثار سياسية وتاريخية كبيرة أهمها:

ضم الفلبين ومعظم أميركا الجنوبية إلى أملاك الإمبراطورية الأسبانية.

تحويل أهالي الجزر الفلبينية إلى المسيحية (وهذا سر كونها الدولة المسيحية الوحيدة في آسيا).

تأكيد كروية الأرض بشكل نهائي، وفتح الطريق للاستعمار الأوروبي في القارات كافة.

.. حدث كل ذلك قبل خمس مئة عام، في حين ما يزال أقوام بيـننا يحرمون القول بكروية الأرض..

بقلم: فهد عامر الأحمدي - الرياض