علم النفس و الاستهداف على شبكات التواصل

التقنية هي عامل مهم للدفع و التطويرالحضاري و الثقافي و يوجد الكثير من الأدلة الشاهدة على ذلك، ولكن هذا لا يمنع أيضا أن تكون في يد الأشرار لمحاولة استغلالها شر استغلال، فهي في النهاية أدوات مثلها مثل الكثير من الأدوات التي تستعمل للخير و الشر. السطور التالية تحاول إلقاء الضوء على جانب مظلم من التقنية للتعريف و التوعية. 

الجزء الثاني من هذا الموضوع - قد انتشرت فضيحة متعلقة به منذ عدة أيام متورط بها شركة كامبردج اناليتكا و فيسبوك -  يتعلق باستخدام علم النفس و التحليل و القياس النفسي - Psychometric analysis - للتلاعب بالعقول و الأفكار على شبكات التواصل الاجتماعي للوصول إلى ما يسمى بالتنميط - Psychometric profiling - ثم استخدام النتائج للتأثير و التوجيه بشكل مباشر او غير مباشر.
و هذه العملية بدأت بشكل ما (غير رسمي) مع بدايات الإنترنت و بدأت بالتطور مع دخول تطبيقات المنتديات و المحادثة ثم وصلت لمكانة وتقنية متقدمة جدا مع دخول التطبيقات التي جمعت ملايين البشر مثل تويتر و فيسبوك و غيرها. 

إختبارات السايكوميتري أو القياس النفسي هو فرع من علوم النفس و استخدمت هذه الاختبارات في البدايات لقياس معيارمناسبة الموظفين لمناصب معينة و درجة ذكائهم و استعدادهم لتلك الوظيفة عبر طرح عدة أسئلة أو امتحانات بسيطة يتم بعدها قياس الأنسب و الأجدر بناء على الإجابات.
و بعد ذلك طُورت هذه الاختبارات و الأسئلة للدخول في عالم التسويق و معرفة من سيشتري منتج معين اويقبل بفكرة معينة بناء على درجة ذكائه و ما يفضل من منتجات او خيارات في حياته. 

تتكون هذه الاستفتاءات أو الاختبارات عادة من مجموعة أسئلة عامة و قد تكون غير مباشرة و ليست واضحة المغزى للشخص المستهدف و في الوسائل القديمة كانت محدودة ببضع صفحات خاصة بذلك الشخص بذاته و لكن بعد دخولها في شبكات التواصل الاجتماعي الضخمة أصبحت كمية البيانات التي تحصد أضخم بكثير فهذه التطبيقات يمكنها مشاهدة تاريخ الشخص كله منذ بداية استخدامه للشبكة و معرفة جميع ما اعجبه و ما أغضبه و ماأحزنه و ماسره و أفرحه و لا تنتهي بما أحبه بل أيضا يمكن تحليل كلماته و تعليقاته و ما كتبه في حالاته المختلفة إضافة لمناطق ضعفه النفسية و غيرها من المعلومات. و من الحقائق المثبتة حاليا أن بعض هذه البرامج تعرف عنك أكثر من أصدقائك و زملائك في العمل بل و حتى أكثر من أفراد أسرتك في حالات كثيرة .  

الأخطر من ذلك (وهي إحدى نقاط قضية الساعة مع فيسبوك و كامبردج اناليتكا) هي أن بعض هذه التطبيقات لم تحلل بيانات الشخص المستهدف فقط بل انتقلت لجميع دوائر أصدقائه بناء على الصلاحيات التي وافق عليها ذلك الشخص و بشكل ما سمحت له برامج الشبكة الاجتماعية بذلك و هذا يعني أنه بمجرد أن وافق شخص واحد فيمكن أن يتم تحليل بيانات مئات الأشخاص و اذا افترضنا أنه شارك 200 الف شخص بإحدى الدراسات (وهذا ممكن جدا ببعض الاغراءات البسيطة و هو الرقم الذي جرى تداوله في القضية المذكورة) و افترضنا ان معدل الاصدقاء لكل شخص منهم من 250 الى 300 صديق (و هو معدل متواضع من وجهة نظري) فالنتيجة هي أن الشركة حصدت بيانات 50 الى 60 مليون شخص و حللت كل ما يمكن تحليله عنهم و عن شخصيتهم بثمن بخس و تكلفة لا تذكر مقارنة بقيمة البيانات و النتائج. و الأنكى من ذلك أن الأغلبية العظمى منهم لا تدري و لم توافق على هذا و لكن تحقق الوصول لهم عن طريق الأصدقاء البسطاء المخلصين (هنا يحضرني مقولة عدو عاقل أفضل من صديق جاهل )

بعد موسم الحصاد لهذه البيانات الضخمة و تحليلها يأتي دور ما يسمى - Microtargeting - وهنا يتم استهداف كل مجموعة مصغرة أو حتى شخص حسب أهوائه و حسب موقعه من التصنيف أو التنميط الذي  وضع به سابقا و ذلك للوصول للهدف الرئيسي و معرفة تفاصيل تفكيره و التأثير عليه سواء لشراء منتج أو التصويت لرئيس معين أو تصويت وطني سواء تجاري أو سياسي أو اتخاذ أي قرار يصب في صالح العقول التي صممت تلك الدراسة أو من دفع لها لتصميمها.
يمكن أيضا التأثير بطرق مختلفة مثل عرض محتويات تحفز الحزن أو الغضب أو غيرها من المشاعر عند عشرات أو حتى مئات الألاف من الناس في مناطق معينة و حسب جنس أو فئات عمرية معينة و غيرها من الطرق المباشرة أو غير مباشرة في التأثير.  

الجدير بالذكر هنا أنه هذه الشركات لا تؤثر في دولة واحدة فقط بل هي ذات امتداد عالمي وبعضها اتهمت بتورطها في اكثر من 20 دولة و قرارات سياسية و تجارية مختلفة.

من أشد مساوئ هذا الموضوع التأثير على المسار الديمقراطي و البحث و القرار الحر لدى كل شخص مستهدف و استخدام مستوى ذكاء عالي جدا منتج من قبل نخبة من العقول الجبارة للتأثير على أشخاص أقل ذكاء. يمكن المقارنة هنا بمجموعة أشخاص أو عصابة مفتولي العضلات و مسلحين بأسلحة ذات تقنية عالية يفرضون رأيهم على أشخاص أقل منهم قوة و بدون أسلحة. 

ما الفرق بين الذكي الذي يستخدم عقله للتلاعب بشخص أقل ذكاء و اللص القوي الذي يجبر فقيرا ضعيفا على التخلي عن ماله أو قوت يومه له. ربما ينظر لها البعض بنظرة ميكافيللية أو داروينية من زاوية أحادية تبريرية خاطئة و مادية بحتة بقولهم أن البقاء للأذكى في هذه الحالة ولكن هذا التلاعب في النهاية يؤذي المجتمع الديمقراطي و يعمل ضد العقود الاجتماعية التي يعمل بها كأسس و قوانين إضافة للمبادئ الأخلاقية التي قد تكون أخر ما تفكر به هذه الشركات التي تسعى للربح المادي فقط و لا يهمها حياة الشعوب ودمائهم. 
و بالطبع ،و كما يقال لايفل الحديد إلا الحديد، فهناك الجانب التقني الإيجابي الذي يمكنه اكتشاف هذا التلاعب و فضحه و لكن هذا لا يكفي بل يجب أن يكون الوعي بما يجري منتشرا بين جميع الناس وآمل أن تساعد هذه المقالة في ذلك. 

بقلم: محمود الجسري