الفارابي وآراء أهل المدينة الفاضلة

ترددت قبل الكتابة عن الفارابي لظني أن الحديث عن المفكرين المعاصرين قد يكون أكثر جدوى في الوقت الحالي ولكني تذكرت أن الكثير من الكتب الحديثة تسرد أفكار ونظريات ومقولات لأرسطو وأفلاطون وهم أقدم من الفارابي. وخطر لي أن إعادة سرد بعض أفكار الفارابي قد تذكّر القارئ المعاصر بتلك الفترة من التاريخ في القرن العاشر ودرجة رقي تصورات "المعلم الثاني" للكثير من الأمور والقضايا التي لا زالت تتكرر بأشكال مختلفة في عصرنا الحالي. يقول الفارابي أن السعادة هي القيمة العليا في ترتيب القيم التي يسعى لها المجتمع الفاضل ومن شروط نشأة المجتمع معرفة أن الاجتماع الإنساني ضروري وهو وسيلة لبلوغ الكمال وتحصيل تلك السعادة في الدنيا والأخرة. ويؤكد أن المدينة هي النواة الأساسية للتجمعات الكاملة وهي أول مراتب الخير والكمال لذلك يسرد الفارابي تصنيف المدن وأنواعها (وربما أسرد تفصيلا عن المدينة الفاضلة بجزء ثاني في المستقبل) وحيث أن بضدها تعرف الأشياء سأذكر في ما يلي اختصارا لشرح المدن الغير الفاضلة: 1- المدينة الجاهلية: - لم يعرف أهلها السعادة وما هي - يظنونها الخيرات الظاهرة مثل سلامة البدن والتمتع باللذات ونيل العظمة. ومن أمثلة أو أنماط المدن الجاهلية: -المدينة الضرورية: حيث يقتصر أهلها على الضروري للحياة فقط من مأكل وملبس وزواج - المدينة البدالة: يتعاون أهلها على نيل الثروة والاستكثار من الأشياء فوق مقدار الحاجة وهذه غايتهم في الحياة مع شح عام - مدينة الخسة والشقوة: قصد أهلها التمتع باللذات من أكل وشرب ونكاح وغاية أهلها اللعب واللذة.- مدينة الكرامة: قصد أهلها أن يكونوا مكرمين ممدوحين مشهورين. - مدينة التغلب: هدف أهلها قهر غيرهم والامتناع عن قهرالغير. وأخيرا - المدينة الجماعية: حيث أن لكل فرد مطلق الحرية بعمل ما يشاء والجميع متساوون وهذه المدن هي التي يمكن إنشاء المدن الفاضلة بها لتوارد الجموع إليها واجتماع مختلف الناس والأهواء بها فينشأ بها الأفاضل ويتفق وجود الخطباء والحكماء في كل ضرب من الأمور. 2- المدينة الفاسقة: أهلها يعلمون عن المدن الفاضلة وعلومها ولكنهم ينهجون منهج المدن الجاهلة. 3- المدينة المتبدلة: كانت مدينة فاضلة وتبدلت وتحولت. 4- المدينة الضالة: تسود بها سعادة ظنية غير حقيقية ولا يسير أهلها على عقيدة صحيحة. 5- النوابت أو نوائب المدن وهي ليست مدن بل أفراد يعيشون في المدينة الفاضلة كالشوك بين الزرع ومنهم المقتنصون (بمعنى انتهازيين) يتظاهرون بالأعمال الفاضلة بقصد تحقيق أهداف أخرى. والمحرفة الذين يحرفون ألفاظ واضع القوانين وأقاويله لتحقيق غاياتهم. ومنهم المارقة المصابون بسوء فهم حيث يفهمون شرائع المدينة الفاضلة على غير مقاصد واضع القوانين. ومنهم المزيفون: الذين يعمدون لتزييف أراء اهل المدينة الفاضلة إضافة للأغمار الجهال. وأخيرا البهيميون: يعيشون كالبهائم. سفاد ورعي وحياة بلا معنى و ربما استعبدوا واستعملوا كالبهيمة وربما يقصد بهم المجرمين ومجتمع و مناطق الجريمة أيضا. ومن أهم خصال أهل المدن الغير الفاضلة التالي: - تخلف النظام والتراتب الإجتماعي حيث ينال كل شخص مرتبته بالتغلب على على غير استئهال أو استحقاق منه فعلى سبيل المقال لا يكون العالم فيها عالما حقيقيا ولا القائد أو المعلم مؤهلا لموقعه - تمادي أهل الجهل والفسق (يصبح أهلها مرضى النفوس يتأذون بالحق والجميل ويلتذون بالسيء نتيجة المواظبة على السيئات باختيارهم وإرادتهم وهذا هو الشقاء) - سيادة فكرة العدل الطبيعي وهو القهر والقوة والتغالب (وقد يعدل الناس في تعاملاتهم بسبب الخوف من بعضهم وتأتي أجيال بعد ذلك وتحسب أنه عدل ولا تدري أنه خوف وضعف) - اختلاف ملوكها عن المدن الفاضلة (كل منهم يعمل للحصول على ميوله ورغباته حسب طبع المدينة). لُقب الفارابي بفيلسوف السعادة لبحثه المستمر عنها و مما يلفت النظر أنه أمضى معظم أوقاته في أواخر عمره في الحدائق والبساتين وقرب الأنهار حيث وجد سعادته هناك.

بقلم / محمود الجسري