الحصار التقني


عبر التاريخ وحتى القرن التاسع عشر سمعنا وقرأنا عن حصار القلاع والمدن بعد زحف جيش ما لقتال جيش أخر وكان هدف ذلك الحصار منع وصول أي نوع من الغذاء أوالرسائل أوالأسلحة وعمل عزل كامل للطرف المحاصر بهدف إنهاكه وكسر معنوياته ثم إجباره على الاستسلام. 

تطور هذا الحصار لاحقا وحتى القرن الحالي وأصبح له تطبيقات مختلفة مثل منع ارسال معدات وأغذية  أو أدوية معينة ضرورية (أوكمالية) للطرف أوالدولة المحاصرة أويتم فرض حصار اقتصادي يفرض عدم بيع وشراء سلع أوتعاون تجاري معها وعادة يكون الطرف الذي يفرض هذا الحصار مهيمنا على دول كثيرة ولديه تحالفات تجارية كبيرة حول العالم. 

جميع الحصارات السابقة كانت على أمور ومواد مادية ملموسة ولكن مع تطور التقنية خلال الأعوام الماضية بدأ يتطور معها نوع جديد من الحصار وهو ما أسميه: الحصار التقني. 

بدأ الحصار التقني بشكل تدريجي غير مؤثر منذ تطور البرمجيات والأنترنت وكانت الدول المتقدمة في هذا المجال تفرض عدم تصدير برمجيات معينة لدول أخرى ،كمثال على ذلك منع تصدير نسخ من المتصفحات التي تدعم نظام تشفيرعالي إلى دول معينة والسماح بالمتصفحات التي تعمل على نظام تشفير أسهل يمكن كسره أواختراقه لمن يملك الأدوات المناسبة. لم يكن هذا الحصار وما شابهه خلال السنوات الماضية (بعد انتشار النت) ذا قيمة عالية بالنسبة لتلك الدول أوالشعوب لاختلاف أولوياتها وعدم وعيها بخطورة الأمر بل وربما لإرادة الحكومات الاستبدادية بها وموافقة مصالحها لذلك الحصار. 

تسارع التطور التقني وظهرت البرمجيات وأنظمة التشغيل التي تعمل من مصادر مركزية والتي يصعب قرصنتها أوسحبها بدون إذن الناشر الرئيسي لها أو بسبب ارتباطها برمجيا بأنظمة التشغيل وبعض هذه الأنظمة والبرمجيات يستخدمها مئات الملايين من الناس مثل أنظمة تشغيل أبل وأندرويد ونظام تشغيل  كروم وغيرها. 

بعد هذا التسارع التقني وبروز الصراع الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين قررت الحكومة الأمريكية تصعيد ذلك والبداية بحصار جديد من نوعه وتم إصدار القانون الخاص بذلك والذي التزمت به مؤخرا عدة شركات ،أهمها غوغل، ولأول مرة في تاريخ العالم يتم فرض حصار على برمجيات تؤثر على مئات الملايين من الأشخاص المستخدمين لهواتف هواوي الصينية الذين لن يستطيعوا تحديث هواتفهم أو تطبيقاتها إلى أي إصدارات مستقبلية منتجة من غوغل خلال الشهور والسنين القادمة. 

كان رد شركة هواوي الصينية أنها ستعمل على تطوير برامجها الخاصة بهواتفها ولا يخفى على المتابعين أنها تفوقت ببعض المجالات على الشركات الأمريكية وهذا الموضوع لن يكون عائقا لها الأن بعد وصولها لمرحلة متقدمة من التقنية.

يذكر البعض أن أحد أسباب دخول الولايات المتحدة للحرب العالمية الثانية كان القلق من التطور التقني الألماني وهذا القلق هو شيء طبيعي لأي امبراطورية قوية تجد من ينافسها بشراسة وبشكل مفاجئ والتسارع الذي أدى لهذه المفاجأة هو نتيجة طبيعية أيضا للتطور التقني الذي تجاوز سرعة التبدل السريع بين عصر الزراعة والصناعة. 

في المستقبل قد نشاهد حظر محركات بحث وخدمات أساسية مشابهة لمجموعات أو دول. بل ربما أن هذه الفكرة قد وردت بشكل حقيقي لدى جهات كثيرة وخلال 2019 بعض الدول استبقت الأمر وأجرت تجارب لقطع كل شبكاتها الداخلية عن الشبكة العالمية بشكل كلي لمدة محددة لمعرفة ماذا سيجري في حال حصول هذا الانقطاع وإجراء خطوات استباقية لسد أي خلل أو نقص في حال حدث ذلك.

ربما ستظهر الأيام أن الهيمنة التقنية ستكون منفصلة عن الهيمنة العسكرية ،إن لم تتدخل الأخيرة لفرض إرادتها، خاصة وأن المجال التقني يمكن تطوره وظهوره بشكل مفاجيء وسريع كما اثبتت السنوات القليلة الماضية.