أمة لا تموت

يعيش عالمنا العربي حالة تراجع غير مسبوق.. تراجع طال مجالات التنمية، والرفاهية، والعيش الكريم.. ناهيك عن التأثير السياسي، والاقتصادي، والمنافسة الدولية..

حتى عقود قليلة مضت كان لبنان يدعى سويسرا الشرق، ويعد مركزاً مالياً ينافس سنغافورة وهونغ كونغ.. كانت سوريا تعيش في نعيم وترف وتستقبل لاجئين من أرمينا واليونان، وتعد مصيفاً لأثرياء المعسكر الشرقي.. وكانت الأمم المتحدة تشيد بتقدم العراق في مجال التعليم والتنمية والرفاهية، وتعده أنموذجاً يحتذى لدول العالم الثالث..

كان اليمن مايزال سعيداً، وكانت محاصيله تصدر لأوروبا قبل أن تطغى عليها حقول القات وعصابات الحوثي.. أما مصر فكانت من الدول المؤسسة لعدم الانحياز، وتطلق صواريخ القاهر والظافر بعيدة المدى.. فيما كانت القاهرة تنافس موسكو وباريس في نظافتها وتألقها..

لا أدعي أن دولنا العربية وصلت لمصاف الدول المتقدمة، ولكنها على الأقل كانت تسير في الاتجاة الصحيح.. بدأت نهضتها بالتوازي مع تايوان وسنغافورة وكوريا الجنوبية قبل أن تتراجع عنها بشكل مخيف.. كانت تسير في «ترند صاعد» قبل أن تنحدر بسبب فشلها في التحول لدول مدنية وديموقراطية حديثة.. ابتليت بصراعات أيدلوجية وأفكار رجعية وولاءات طائفية طغت على مفهوم التنمية الوطنية.. خرجت من مضمار المنافسة الدولية لأن أبناءها انشغلوا بعلوم وهمية ومواقف فكرية لاتضيف شيئاً لمسيرة التطور البشري.. وليس من طبيعتها التوافق أو الانتهاء لحل يرضي الجميع..

حتى عقود قليلة مضت كانت قضية فلسطين مشكلتنا الوحيدة، وكانت إسرائيل تدعى حينها «العدو الصهيوني».. غير أن الأولويات تغيرت، والمشاكل تكاثرت، والوحدة العربية أصيبت بشروخ كثيرة.. أعظم هذه الشروخ كان غزو صدام للكويت وانقسام الشارع العربي ما بين مؤيد ومعارض.. وازداد الوضع سوءاً خلال الاحتلال الأميركي وظهور دعوات طائفية تم تسريبها لبقية الدول العربية.. ثم أتت ثورات الربيع العربي التي بدأت كرد فعل على جمود الأنظمة الهرمة، ولكنها فـشلت في تأسيس أنظمة مدنية بديلة..

حالات التراجع هذه جعلت إيران تتقدم لملء الفراغات، وإسرائيل تنتصر في معارك لم تخضها.. ومع هذا لم يشعر العرب بهزائمهم لأن لقمة العيش أصبحت هـم المواطن البسيط، في حين انشغل المترفون باقتسام كعكة التاريخ والوطن.. أصبحوا يركضون بعكس المستقبل، ويسترجعون من الماضي مواقف وصراعات ظهرت منذ موقعة الجمل..

ولأن الحلول النوعية تتطلب تغيرات جذرية، يجب أن نعترف أولاً بأن التاريخ أصبح حملاً ثقيلاً، وأن التراث تحول إلى تركة تستهلك طاقة الأجيال المعاصرة.. لا يستطيع العرب الانطلاق للمستقبل من خلال ماضي يملك ظروفاً ومعطيات مختلفة.. لم يعد مفيداً التفكير حتى بالقومية العربية أو المناداة بالوحدة الوطنية أو البقاء ضمن الجامعة العربية.. فكل هذه الشعارات أخرتنا وقيدتنا، وأصبح الخيار الأسرع هو أن تنطلق كل دولة بمفردها (لعلها تعود لاحقاً لإنقاذ جاراتها) كما انطلقت تايوان وهونغ كونغ بمعزل عن الصين الوطن الأم، وكوريا الجنوبية بمعزل عن شقيقتها كوريا الشمالية التي انشغلت مثلنا بمواقف أيدلوجية جعلتها تركض في الاتجاه الخاطئ..

أيها السادة:

يرى بعض المؤرخين أن الأمة العربية ماتت منذ زمن طويل، ولكنني شخصياً أعتقد أن الأمم الكبيرة (قـد تغفو طويلاً) ولكنها لا تموت أبــداً.

بقلم: فهد عامر الأحمدي - الرياض