مخلوقات مودرن

يوم الأربعاء الماضي أعلنت مدينة نيويورك عن تخصيص 360 مليون دولار للقضاء على الجرذان التي وصلت لمستوى لا يمكن السكوت عنه في المدينة..

ولا أدعي أنني فوجئت بهذا الخبر كونها مشكلة أزلية تعاني منها المدن الكبيرة التي تملك شبكات عميقة تحت الأرض.. أصبحت قضية الجرذان في نيويورك وباريس ولندن وسان فرانسسكو من الوعود الانتخابية التي يفشل في تحقيقها المرشحون للانتخابات البلدية .. أذكر أن عمدة نيويورك عقد مؤتمرا صحفيا طارئا في يونيو 2008 للإعلان عن حالة طوارئ طالب فيها المواطنين بالتطوع للقضاء على الجرذان التي وصل عددها ـــ قبل تسع سنوات ــ إلى 70 مليون جرذ .. أي سبعة جرذان لكل مواطن !!

أما الأدهى من الجرذان فهو احتمال وجود أفاعي سامة وتماسيح عملاقة تعيش في مجاري المدن الضخمة.. وان اخضعنا هذه المعلومة للمنطق نجد انها معقولة لسببين؛ الاول ان المجاري في المدن الكبيرة (عملاقة) بحيث تشكل انهارا جوفية قد تتقاطع على عدة مستويات .. والثانى ان الأفاعي والتماسيح لاتقف فى نموها عند حد معين طالما وجدت مرتعا خصبا كمجاري المدن المترفة !!

وهذه الظاهرة التي تحدث (تحت الأرض) تقودنا للحديث عن ظاهرة غير مسبوقة تتعلق بتمدن المخلوقات البرية وعشقها لحياة المدن فوق الأرض ــ خصوصا الحمام والفئران والغربان والقرود.. فكثير من الأنواع الحيوانية بدأت تغير عادات ألفتها منذ ملايين السنين كي تتأقلم مع المدن الحديثة .. في معظم المدن الأوربية أصبح محظورا بيع حبوب الطيور للحد من اسراب الحمام الذى اصبح يعتمد فى طعامه على السياح .. اكتشفت متأخرا ان سهولة حصول الطيور والحيوانات على الغذاء ــ ناهيك عن المستأنسة داخل البيوت ــ جعل اعدادها في المدن يفوق بكثير الموجود منها خارج المدن !

والحقيقة أن أنواعاً حيوانية كثيرة أصبحت هذه الايام تواجه الموت إن انتشلت من المدن.. فـالقوارض مثلا غيرت سلوكياتها لتتلاءم مع فضلات البيوت والمطاعم، والطيور تخلت عن هجراتها الموسمية مفضلة عليها الاستقرار في المدن، والغربان أصبحت تتزاحم فوق عواميد الإنارة وأسلاك الكهرباء مراقبة فضلات الطعام ومايرميه الانسان.. لم تعد الكلاب (التي استأنسها الإنسان قبل عشرة آلاف عام) قادرة على العيش دون رعايته، ولم تعد القطط (التي استأنست نفسها بنفسها منذ عهد الفراعنة) تتواجد وحدها في المناطق البرية ..

خلال السبعين عاما الماضية دخلنا مرحلة جديدة لم تعهدها الأرض خلال ملايين السنين الماضية.. مرحلة تودع فيها الحيوانات بيئتها البرية والطبيعية مفضلة عليها الاستقرار في المراكز الحضرية للإنسان.. أصبحت المدن نقاط جذب ــ ليس فقط للفقراء وسكان الريف ــ بل وللحيوانات ايضا التي اكتشفت فيها مراتع غنية بالطعام والدفء والفضلات المجانية (وحين تتوفر فيها شبكات جوفية عميقة تصبح البيئة بالنسبة لها أكثر خصوبة)...

... باختصار؛

الحياة البرية بدأت تنقرض خارج المدن (لدرجة تكاد جزيرتنا العربية تخلو منها) مقابل تكاثرها داخل البيوت وحدائق الحيوانات .. دخلنا مرحلة غير مسبوقة ظهرت خلالها مخلوقات "مودرن" تموت بمعنى الكلمة في حال قررنا إعادتها لبيئتها الطبيعية..

بقلم: فهد عامر الأحمدي - الرياض