تعدد المصادر لا يعني صحة المعلومة

رسائل الواتساب نموذج لتضاعف رياضي سريع لا يمكن تخيله أو إدراكه بدون آلة حاسبة.. تتضاعف وتنتشر وتأتينا من كل ملايين المصادر خلال وقت قصير.. يمكن تشبيهها بحبات الأرز (في قصة مخترع الشطرنج) التي تتضاعف بسرعة خارقة وتصل لرقم خرافي في آخر مربع.. والمشكلة أن كثرة المصادر وتعدد الجهات الواردة منها يمنحها مصداقية فيبدأ حتى العقلاء بتصديقها.. ويزداد الأمر خطورة حين تخرج عن نطاق السيطرة وتطغى على كامل المجتمع فتدخل دائرة الوسوسة أو الهلوسة جماعية!

والهلوسة الجماعية ظاهرة اجتماعية دورية تظهر في جميع المجتمعات وتزداد نسبتها زمن الأزمات.. فقبل سنوات طويلة كتبت مقالا عن هوس الناس بشراء الدينار العراقي المبني أساسا على فهم اقتصادي خاطئ.

وفي ذلك المقال ضربت مثلا بما حدث في هولندا بين عامي 1635 و1637 حين ارتفعت أسعار زهرة ال"توليب" الى خمسين وستين وسبعين الف جيلدر (بسبب شائعات روجها تجار الزهور). وبلغت قوة الشائعات درجة أن الفقراء أصبحوا يقايضون بيوتهم وأبقارهم وممتلكاتهم مقابل زهرة أو زهرتين لاتعيش لأكثر من أسبوع أو أسبوعين. واليوم لو زرت أمستردام ورأيت بعض البيوت منقوشا فوق بابها زهرة التوليب فاعلم أن المنزل بأكمله بيع ذات يوم مقابل زهرة واحدة فقط لايتجاوز ثمنها اليوم الثلاثة ريالات!

.. المدهش أكثر أن حالات الهوس الجماعي أصبح بالإمكان خلقها عمداً (من خلال الجمع بين سياسات الدول العظمى وآلتها الإعلامية الكبرى).. وما من دولة بطبيعة الحال أتقنت فن خلق الشائعات وغسل عقول الآخرين مثل اميركا. فالتاريخ الحديث للولايات المتحدة يثبت أنها تعمد الى تسريب الشائعات بطريقة علمية محكمة حتى تتضخم بذاتها وتتبناها وسائل الأعلام بكثافة (وبالتالي تتعدد مصادرها ويتعذر معرفة مصدرها أو الحكم عليها بشكل عقلاني)..

وبالإضافة للوكالات والمحطات الإعلامية توظف الحكومة الأميركية 3,5 ملايين خبير إعلامي لتشكيل الرأي العالمي بحجج هشة.. وجاء في كتاب "آلة الدعاية في واشنطن" أن الإدارة الأميركية توظف 4500 خبير إعلامي لتهيئة الرأي العالمي لأي مبادرة عسكرية او سياسية تقوم بها اعتمادا على دراسات وأبحاث علمية ناقصة أو مفبركة. فمن فيروس سارس وانفلونزا الخنازير الى أسلحة العراق وكوريا الشمالية سربت أميركا شائعات عالمية تضاعفت بسرعة رهيبة على رقعة الشطرنج!

والغريب أكثر أن الدراسات العلمية الرصينة التي تتوافق مع سياسة الدول العظمى تستغل أيضا كعامل ضغط لتوجيه الرأي العالمي نحو مصالحها (مثل غلبة النفط الصخري أو دور النفط الخليجي في الاحتباس الحراري).. وبقليل من التدقيق نكتشف ان معظم الدراسات (التي تتحول لاحقا الى هوس عالمي) تصدر غالبا من منظمات أميركية أو غربية تعمل لصالحها كوكالة الأغذية والأدوية، ومعهد البترول الوطني، ووكالة ناسا، أو منظمات تعتاش على التمويل الأميركي كمنظمة الصحة العالمية، ومعهد مراقبة الأرض، ونادي حكماء روما.

.. على أي حال؛ لدينا في مجتمعنا المحلي مهارات تكفي لخلق شائعات وحالات هوس تغنينا عن تبني شيء من الخارج.. والدليل وصول (نفس رسالة الواتساب) من عدة مصادر مع أغلظ الأيمان بألا توقف عندك.

* بقلم: فهد عامر الأحمدي - الرياض