اللغة مرآة الشعوب

كان العرب يملكون كلمات كثيرة لوصف الشيء ذاته (وبشكل لا تجده في أي لغة قديمة).. فالمدينة المنورة مثلاً كان لها أكثر من أربعين اسماً، قليل منها فقط بقي اليوم معروفاً ومتداولاً مثل يثرب والمدينة وطيبة وطابة.. وكثير منها لم يعد معروفاً أو متداولاً مثل الحبيبة والمحبوبة والقاهرة والجابرة والمباركة..

أما الأسد فله في لغة العرب أكثر من خمس مئة اسم لا نعرف منها سوى القليل مثل الليْث، والغضنفر، والضِّرْغامُ... وكثير منها لم يعد معروفاً مثل الفِرْناسُ، والباسِلُ، والغشمشمُ، والعَزام..

وما يدهشني شخصياً ليس فقط كثرة المسميات في العصور القديمة بل وتراجعنا عن استعمال الكثير منها في العصور الحديثة (بل وأصبحنا اليوم نكتفي بكلمة واحدة فقط لوصف كل شيء).. خذ على سبيل المثال مشي الإنسان بسرعات مختلفة حيث كانت العرب تطلق على مشي الرَّضيعِ "الحبو" والغلام "الحجلان" ومشية الشاب "الخطران" ومشية الشيخ "الدَّلِيف" ومشية النشيط "الدأَلان"... ولكننا تركنا اليوم كل هذا واكتفينا بكلمة مشى ويمشي!!

أيضا كانت العرب تطلق مسميات مختلفة على كيفية النظر بالعين فتقول لمن ينظر بكامل عينيه "رمقه" ولمن ينظر للشيء من جانب عينيه "لحظه" ومن ينظر بحده "حدجه" ومن ينظر بتعجب "شفنه" ومن ينظر متثبتاً "توضّحه" ومن ينظر رافعاً يده مستظلاً من الشمس "استشرفه" أو "استكفه".. ولكننا تركنا كل هذا واكتفينا بكلمة شافه أو شاهده!!

... وأذكر أنني كتبت مقالاً بعنوان مراتب النيسابوري بدأته بقصة عن المعري الذي تعثر يوماً بشيخ كبير فصاح فيه غاضباً: من هذا الكلب؟ فرد عليه المعري: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً.. وسرعان ما تحول هذا الرد إلى منافسة بين علماء اللغة (من يعرف للكلب سبعين اسماً) حتى تمكن السيوطي من جمعها في أرجوزة دعاها "التبري من معرة المعري"!

... أما أبو القاسم النيسابوري فرتب أنواع الجنون بطريقة تفوق علم النفس الحديث حيث يبدأ بالأحمق ثم الأخرق ثم المائق ثم الرقيع ثم اللكع ثم الهجاجة.. وبعد الهجاجة ينتقل إلى مرحلة الجنون الأصيل حيث المعتوه (الذي يولد مجنوناً) والممسوس (الذي يولد عاقلاً ثم يجن) ثم المخبول والأنوك والذولة والموتة والنطاه والعرهاه والأولق والمهووس والهلباجة والجذب!!

أما الثعالبي فقسم الحب الى عشر مراتب في كتابه الشهير "فقه اللغة" حيث يقول:

... والحب يبدأ ب(الهوى) فإذا زاد سمي (الكلف) ثم (العشق) ثم (الشغف) ثم (الجوى) ثم (التيم) ثم مرض في الجسد يدعى (التبل) ثم اضطراب في العقل يدعى (التدلية) حتى ينتهي ب(الهيوم).. حيث يهيم المحب على وجهه في الشوارع والطرقات ويحتار في أمره الرقاة والأطباء!!

المحزن أكثر أن تعددية المفردات هذه سبقت عصر التدوين ثم توقفت تماماً منذ قرون.. والحقيقة هي أن اللغة مرآة الأمة ومقياس لمساهمة أهلها في الإبداع العالمي.. فالإبداعات الجديدة سواء كانت أدبية أو علمية تستدعى بالضرورة ابتكار كلمات تعبر عنها سرعان ما تتشعب وتتعدد وتقتبسها اللغات الأخرى. وفي حين توقف العرب عن ريادة العالم منذ قرون أصبحت الإنجليزية اليوم هي لغة العلم والسياسة والاقتصاد والإعلام والتكنولوجيا..

.. ومن كل هذا ندرك أن حالنا مع اللغة العربية يتضمن اليوم مفارقة يتوسطها معجم لسان العرب (الذي وضعه ابن منظور المتوفى عام711ه)..

فنحن من جهة؛ أضعنا مفردات غزيرة وُلدت في الجاهلية وعاشت حتى العصور الأولى من الإسلام.. ومن جهة أخرى؛ تسبب ضعفنا الثقافي والعلمي (في العصور المتأخرة) في التوقف عن إثرائها والإضافة إليها كما هو حال لغات الدول المتقدمة هذه الأيام..

بدون شك؛ اللغة مجرد مرآة تعكس حال الشعوب التي تتحدث بها!!

* نقلاً عن صحيفة "الرياض"