ملابس الجيل القادم

حتى خمسين عاماً مضت كان بإمكانك تمييز الأجانب من ملابسهم.. وأيام طفولتي كان بالإمكان تحديد جنسيات الحجيج والزوار من زيهم الوطني.. فلباس الحاج الموريتاني أو الليبي مثلاً عبارة عن قطعة قماش كبيرة يلف بها ملابسه الداخلية اتقاءً للعواصف الرملية التي تميز بلاده. أما الحاج اليمني فيتميز ب"الفوطة" القصيرة تسهيلاً لصعوده للمساكن الجبلية وهو مايذكرنا بتنورة الاسكتلنديين الجبلية.. أما الحجاج الروس والقوقاز فكنا نعرفهم بقبعات الفرو السميكة والمعاطف الثقيلة التي تناسب الأجواء الباردة في بلادهم. أما الحجاج الأفارقة والقادمون من البلدان الاستوائية في شرق آسيا فيعرفون بملابسهم الخفيفة ذات الألوان الزاهية!!

غير أن العولمة والانفتاح الثقافي وحّد أيضاً طريقة البشر في اللبس وخلق ما يمكن تسميته باللباس العالمي الموحد.. فقبل زمن العولمة والتمازج الثقافي (الذي نشهده هذه الأيام) كانت الظروف البيئية والمناخية هي صاحبه القرار الأكبر في (تصميم) الزي الوطني لكل شعب على حدة.. وحين أتأمل لباسنا السعودي أرى بكل وضوح أنه وليد ظروفنا الجوية والمناخية.. فلو عدنا سنين كثيرة إلى الوراء (قبل ظهور وسائل التكييف الحديثة) لوجدنا أن الثوب الأبيض الفضفاض هو الأفضل لمواجهة الحرارة وتوفير البرودة.. وحين يسير لابسه في الشارع في عز الظهيرة من الطبيعي أن يفكر بوضع قطعة قماش على رأسه لحمايته من حرارة الشمس (ومن هنا ظهرت العمامة أو الشماغ).. ولأن هبوب الرياح يُسقط دائماً قطعة القماش من فوق رأسه، أصبح يحيطها بعصابة أو حبل من صوف أو وبر (ومن هنا ظهر العقال أو عصابة الرأس).. وحين تهب عواصف الغبار أو تثور رمال الصحراء أو يحل الظلام ببرودته القارصة لن تجد أفضل من عباءة كبيرة فضفاضة تختبئ بداخلها كخيمة صغيرة (وهذا بالضبط أصل البشت أوالمشلح)!

.. ولكن.. رغم اعترافنا بالدور الأساسي للمناخ والتضاريس؛ هناك عوامل إضافية تساهم في رسم ملامح اللباس والزي المحلي أبرزها التعاليم الدينية والأعراف المرعية والتفرقة الجنسية التي قد تفرض لباساً محدداً ولهذا السبب بالذات أرى أن ملابس الرجل ترتبط بطبيعة المناخ أكثر من المرأة التي تخضع دائماً لاشتراطات إضافية..

على أي حال؛ الظاهرة الجديدة هذه الأيام (والتي لم تتكرر في تاريخ البشرية) هي أن ملابس الشعوب بدأت تتوحد وتتشابه.. فاللباس الأوروبي (الجاكت والبنطلون والكارفات) أصبح هو اللباس المعتاد للسياسيين ورجال الأعمال في مختلف البلدان.. وملابس النساء والأطفال التي تصنع في الصين والبرازيل وتايلند يمكن أن تلبس أيضاً في كندا والبرتغال والكويت.. ولأن أجهزة التكييف الحديثة حيدت عامل المناخ أصبح رجل الدولة في كينيا والسنغال (حيث تصل الحرارة إلى خمسين مئوية) لا يتحرج من لبس جاكيت من الصوف الإنجليزي وإحاطة رقبته بكرافتة غليظة ابتكرها الفرنسيون لتدفئة أعناقهم!

... وهذه كلها دلائل تشير الى أن ارتباط اللباس بظروف المناخ لم يعد قوياً كما كان (بفضل تغير أسلوب الحياة وظهور تقنيات التكييف).. كما لم يعد يعبر عن خصوصية المجتمعات وتمايز الثقافات بفضل الانفتاح والعولمة والتمازج الثقافي..

شبابنا اليوم لم يعودوا يحتاجون للبس البشت لمواجهة حرارة الشمس وعواصف الرمال؛ وبسبب العولمة وانفتاح العالم أصبح القميص والبنطلون هنداماً مفضلاً لديهم وشائعاً بين أقرانهم في جميع الدول.. وكما ابتكر أجدادنا لباساً يوائم ظروفهم المناخية وبيئتهم المحلية، تجاوز الجيل الجديد عوامل المناخ وخلافات الجغرافيا وتبنى (شئنا أم أبينا) الزي العالمي الموحد.. وكما أصبح البشت مجرد ديكور نلبسه في الزواجات وأمام الكاميرات سيتراجع الثوب وتختفي العمامة ويعود الشماغ لأصله الإنجليزي القديم.. مفرش طاولة..

* نقلاً عن صحيفة "الرياض"