الشعب الذي تحرر بالغناء

 حتى سنوات قليلة مضت لم نكن نسمع بدول البلطيق الصغيرة أستونيا ولاتفيا وليتوانيا.. والسبب الحقيقي أنها كانت دائما محتلة إما من السويديين أو الروس أو الألمان أو الروس مجددا منذ الحرب العالمية الثانية..

خذ كمثال أستونيا التي لم تنعم بأي فترة استقلال تزيد على (العام) قبل الحرب العالمية الثانية.. وتعيش حاليا أطول فترة استقلال في تاريخها كله (24 سنة فقط) منذ تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991

وكنت شخصيا قد زرت هذه الدول في أبريل الماضي ضمن رحلة طويلة بدأت في موسكو وانتهت في غرب النرويج..

واستونيا بالذات دولة صغيرة هادئة تشتهر بأربعة أشياء غير متوقعة:

الأول اختراعها برنامج السكايبي Skype .. والثاني امتلاكها أكبر نسبة من عدم المتدينين في العالم.. والثالث عاصمتها تالين التي مازالت تحتفظ بطابع القرون الوسطى (وتعد المعلم السياحي الأول فيها) أما الرابع فهو طريقتها الفريدة في التحرر من الاحتلال السوفياتي بواسطة.. الغناء..

فالشعب الأستوني مسالم بطبيعته ولا يزيد عدده على 1,3 مليون نسمه (ربعهم من المهاجرين الروس) ولم يملك جيشا يسمح بصد الاحتلال الروسي عام 1940 أو الألماني عام 1941 أو الروسي الثاني عام 1944..

وحين بدأ جورباتشوف (آخر رئيس للاتحاد السوفياتي) يتحدث عن عدم شرعية احتلال بلاده لدول البلطيق أدرك الشعب الأستوني أن فرصته حانت للمطالبة باستقلال بلاده عن موسكو. ولأنهم لا يملكون جيشا نظاميا.. ولأنهم يملكون في المقابل أعدادا هائلة من الأغاني الوطنية والفلكلورية؛ تجمّع معظمهم في ضواحي تالين للغناء بصوت واحد أمام قطعان الجيش الروسي (منذ عام1987 وحتى 1991) حتى حرروا بلادهم.. كانت إستراتيجيتهم بسيطة وتعتمد على الوقوف بصرامة في وجه الجنود الروس دون التوقف عن غناء الأغاني الوطنية المحرمة عليهم.. ثم طوروا هذه الإستراتيجية بحيث كانوا يتقدمون ببطء، ودون عنف، أمام الجنود الروس الأمر الذي لفت انتباه التلفزيونات العالمية وجعل السلطات الروسية تتحرج من الرد عليهم بطريقة علنية.. وحين زحفت الدبابات الروسية أمام الجماهير عام 1991 شكلوا سلسلة بشرية (من خلال شبك الأيادي) امتدت حتى وصلت الى لاتفيا وليتوانيا المجاورتين وما تزال مذكورة في كتاب جينيس كأطول سلسلة بشرية في التاريخ..

وكنتُ شخصيا (قبل القيام برحلتي الأخيرة) قد قرأت الكثير عن الدول التي سأزورها.. وحين قرأت عن أستونيا سمعت لأول مرة عن "الثورة الغنائية" وشاهدت فيلما وثائقيا عنها يحمل نفس الاسم.. وحين وصلت اليها فعلا (عن طريق البحر قادما من فنلندا) شاهت خارج تالين ساحة تتسع لنصف مليون شخص يعقد فيها اليوم مهرجان سنوي للأغاني العالمية تخليدا لهذه المناسبة..

الطريف أن الشعب الأستوني لا يتردد في التهكم على نفسه ويقول "لو كنا نجيد الغناء فعلا لما هرب الروس من بلادنا" .. أما ما يغيظهم فعلا فهو أن الصينيين (الذين لا تخفى عليكم مهارتهم في تقليد كل شيء) يفوزون دائما بجوائز الأداء الجميل من خلال الأغاني الأستونية ذاتها..

.. والآن؛ افتح محرك اليوتيوب وأدخل فيه هذه الجملة The Singing Revolution لتشاهد كيف حرر الأستونيون بلادهم دون إراقة قطرة دم واحدة!

* نقلاً عن صحيفة "الرياض"