بين الحرية والاستقرار والرخاء

يتبادر إلى ذهني دوما، وخصوصا في السنوات الأخيرة التي مرت، أي القيمتين أهم.. الحرية أم الرخاء؟ وهل الحرية مرتبطة بالفوضى والرخاء مرتبط بالاستقرار؟ تكرر السؤال في رأسي بقوة أشبه بطنين النحل وأنا أشاهد تبعات الزلزال المالي الكبير الذي ضرب وعصف بأم الديمقراطية ومسقط رأسها اليونان، 

وكيف تحول شعبها إلى عاطل عن العمل لتصل نسبة البطالة فيها إلى أكثر من 30 في المائة، وطوابير غير القادرين على تأمين قوت يومهم تقدر بالكيلومترات وهم يصطفون للحصول على كوب من الحساء ليسدوا به جوعهم، وتولّد عن كل ذلك حالة من الغضب الشعبي الجارف الذي نتج عنه صدامات ومواجهات وموجات من العنف تحولت مع الوقت إلى جرائم تهدد المجتمع بأسره.. اقتصاد أصابه الضعف ولم يستطع حماية نفسه من بعض مظاهر الفساد، فأغرق نفسه في مستنقع جر معه القارة الأوروبية بأكملها، وبالتالي أثر على اقتصاد العالم أيضا في الوقت نفسه، 

بينما هناك دول مثل سنغافورة أو حتى الصين، وهما دولتان «صارمتان» في تعاملهما الأمني لأجل حماية البلاد وضمانة استقرارها، اهتمت بتوفير المناخ الاقتصادي والاستثماري الجاذب والمحفز، وتوفير البنى التحتية المثالية والمطلوبة للسكان، وذلك بتأسيس الخدمات الصحية والتعليمية والقضائية التي توفر العيش الكريم وحوافز مستمرة للقطاعات الاقتصادية للتشجيع المتواصل والمستمر لكل من يرغب في الاستثمار، وبالتالي تحقيق معدلات إنتاجية مرتفعة تؤمن نموا في معدلات التوظيف وتحسينا في معدلات الدخل، مما يعني رخاء وخيرا لشرائح مختلفة من المجتمع تحقق فائدة عامة بقدر الإمكان.

قد تكون المقارنة في هذه الأمثلة «تحديدا» فيها بعض أو حتى الكثير من التبسيط، ولكن المعنى يصل في كل الأحوال، وخصوصا بالقياس مع الطرح الحاصل في بعض دول منطقة الشرق الأوسط حاليا، حيث تم «ربط» الحرية بالفوضى وانعدام الأمن والأمان والاستقرار، وربط الرخاء بوجود حالة من الاستقرار والطمأنينة الاقتصادية.

في تلك الدول هناك «فواتير» للحرية واجبة السداد ومع السعي إليها «تزين» قيمتها بأنها «تستحق» السداد، مع العلم أن هناك الغالبية العظمى من الذين يؤيدون ويشجعون ويحفزون القيام بسداد هذه الفواتير الباهظة هم بالأساس غير معنيين بالمسألة أصلا. ليست كل الحلول على شاكلة «كندا» التي يتحقق فيها الرخاء والحرية، أو الدول الاسكندنافية أو سويسرا، فهذه النماذج هي الاستثناء.

الأمن والأمان والاستقرار قيم لا يدرك معناها إلا مَن فقدها كقيمة الحرية التي لا «يستنشق» هواءها إلا مَن حُرم منها. تذكرت حادثة حصلت لصديق عربي وصل إلى النمسا لأول مرة ودمعت عيناه وهو يتجول في شوارعها مبهورا بجمال البلاد الآسر ومتمتعا بحريات الفن والفكر والأدب والرأي، فما كان منه سوى إرسال رسالة شديدة القسوة وحادة الكلمات والمعنى ولكن هناك مغزى فيها لا يمكن إنكاره. الإنسان مجبول بطبيعته على التشوق للحرية وخلع القيود، ولكنه أيضا بفطرته يبحث ويسعى وينشد الأمن والأمان كدافع غريزي للطمأنينة وإزالة الخوف من داخله.

في معظم دول العالم الثالث الخيار بات واحدا من اثنين.. إما الحرية مع الفوضى أو الرخاء مع الاستقرار. هي في الواقع آلام النمو وتطور في ثقافة التغيير ومعرفة أن هناك أولويات وأن البناء مسألة دقيقة وأن الإصلاح والترميم في معظم الحالات أقل تكلفة من الهدم وإعادة البناء من الصفر.

اليونان تئن من آلامها وأصبحت من الدول النامية أو المتخلفة في المنظومة الدولية وعالة على أوروبا، بينما دول مثل سنغافورة والصين يُضرب بهما المثل في التخطيط والتطوير والتنظيم، وفي ذلك درس وعبرة أن هناك أولويات ومن بعدها تبعات؛ فالحريات لا تأتي عن طريق الـ«Outsourcing»، أو من الباطن أو حتى عن طريق خدمات الغرف Room Service، ولكنها تأتي بفاتورة باهظة الثمن وطويلة الأجل ولكنها تبقى طلبا جديرا ومستحقا، كما أن الاستقرار والأمن قيمتان لا يمكن الإقلال من وزنهما في حياة وسوية المجتمعات وسلمهما. 

نقلاً عن "الشرق الأوسط"